الدكتور :علي منعم القضاة *
تحدثنا في مقالة سابقة؛ أن أزمة كورونا العابرة للقارات، التي قد وضعتنا على محكاتٍ كثيرة، وحقيقية في كل مناحي الحياة، وقد كان محك التعليم بمختلف مراحله؛ التعليم العام والتعليم العالي، من أهم هذه المحكات؛ وتناولنا بعض الهموم والمشاكل التي واجهت كل من المعلمين والمتعلمين في تنفيذ خططهم الدراسية وتدريس المنهج المقرر.
تناولنا بالتعريف أنواع مختلفة من طرق التعلم والتعليم، وتم التمييز بإيجاز عن خمسة أنواع من التعليم، ونخصص الحديث اليوم عن نظام التعلم والتعليم الإلكتروني المنتظم (بشكل كامل)، أو ما يسميه التربويون بالتعليم غير التقليدي، وهو أشبه أنظمة التعليم بالتعليم التقليدي الذي نعرفه جميعاً، ولكن ما يميز التعليم غير التقليدي (Online) أن جميع مراحله تتم عبر التطبيقات الإلكترونية وتكنولوجيا التعليم.
يعتبر التعليم الإلكتروني (Online)، بشكل كامل، أو نظام التعليم (التعلم والتعليم الإلكتروني) غير التقليدي، يعتبر نظاما حديثا في أكثر دول العالم؛ حيث تتفاوت فيه نسبة الحداثة بين دولة وأخرى، خاصة في العالم العربي الذي دأب أن ينقل خبرات الآخرين إليه، وغالباً بوقت لاحق، أو متأخر عن تطبيقه في الغرب، بالرغم من أن علماء العرب مبدعون ومتميزون في كل المجالات، وهي مشكلة من وجهة نظري تعود لنظام الإدارة (البيروقراطي) المعتمد في معظم الدول العربية، وهو نظام بيروقراطي بامتياز، الذي يحمل شعار "لا أريكم إلا ما أرى"، وهي أنظمة يتحكم بها قانونان اثنان أساسيان لا ثالث لهما هما:
إن التعليم الإلكتروني (غير التقليدي) معتمد في أكثر جامعات الدول المتقدمة، وبعض الدول النامية باعتباره نوعاً من التطور وتعبيراً عن تقدم الدولة في مجال التعليم، وهناك أمثلة حققت نجاحات كثيرة في الجامعات الأمريكية والأوروبية للتعليم عن بعد (الكترونياً)، لكن وبمنتهى البساطة جاء التعلم الإلكتروني إلى بلادنا فجأة، كما ذكرت؛ فأثقلت كاهل الجميع بغتة دون تخطيط مسبق، وخفف كثيراً من الأهداف المرجوة منه، حتى إن العديد من السلبيات أظهرتها مواقع التواصل الاجتماعي، من خلال السجالات بين الطلبة وأعضاء هيئة التدريس والأهالي، والجهات الرسمية، والشعبية، فكانت (لاَ غَالِبَ وَلاَ مغْلُوبَ).
التعليم الإلكتروني (Online) غير التقليدي يقدم بكل حَيْثِيَّاته ومراحله إلكترونياً، ويعتبر نظاماً جديداً على العديد من الدول العربية، وتكاد الجامعات التي تعتمد نظام التعليم الالكتروني أن تكون معدودة جداً، وخريجوها مازالوا يواجهون نوع من الاستغراب، أو التنكر لهم، أو عدم الاهتمام والجدية في التعامل معهم علمياً.
لا شك أن لكل نوع من أنواع التعليم ظروفه، بحسب الأهداف والفئة المستهدفة، وأن هذا النمط من التعليم كان مفروضاً علينا بسبب ظروف المرحلة، ولكن يجب أن لا نجعله سُبّة في وجه التعليم؛ بل فائدة عظيمة يمكن أن نبدأ بها مباشرة، وأن لا نقبل بالنتائج كما هي بصورتها الآنية.
لذا فإن النظر في بعض عمليات التنجيح التلقائي في جميع الجامعات، ولجميع التخصصات، سيعتبر بكل تأكيد كأننا نضع العربة أمام الحصان، وأن بيان بعض الإيجابيات على أنه الدواء الناجع والبلسم، لكل مشاكلنا يعتبر أيضاً نوعا من ذر الرماد في العيون، المشكلة التي يعاني منها آلاف المعلمين، وأساتذة الجامعات من جهة، ومئات آلاف التلاميذ والطلبة غير مؤهلين للتعليم غير التقليدي، ولا أراني مبالغاً إذا قلت: إن من بينهم من لا يستطيع ان يطوّر نفسه في هذا المجال. ونضيف إلى ذلك معاناة أهاليهم معهم، أنهم غير مستعدين تكنولوجياً ونفسياً لهذا النوع من التعليم.
ولعلنا نسأل أنفسنا: هل يجب أن نعرف الهدف من التعليم، ولماذا نقوم بالتعلم؟ فإذا كان الهدف هو أنسنة الطالب من خلال بيئة جامعية تراعي التعليم والسلوك، لبناء جيل قادر على القيادة والعيش بشكل أفضل، فإن ذلك يستدعي وجود بيئة تعليم تقليدي إضافة إلى التقليدي، ولعل هذا يكون أنجع في المرحلة الجامعية الأولى. ولكننا إذا اعتمدناه منهجاً بشكل رسمي في الجامعات الرسمية والخاصة، استوجب علينا خطوات سابقة ومهمة لوجوده في المراحل الجامعية، وليس من وجهة نظري أن نعتمده من الآن في المراحل الابتدائية والإعدادية والثانوية، لذلك فإننا سنحتاج إلى عقد واحد من الزمان لتطوير خطة التعليم، حتى نجعل التعليم غير التقليدي قابلاً للتحقق، وواقعاً ملموساً، وثقافة مجتمعية، إذا ما طبق بأصوله في جميع مراحل التعليم العام قبل الجامعة.
وسوف يكون التركيز هنا على مرحلة التعليم الجامعي التي يفترض أن يصل إليها أغلب الطلبة مستعدين للتعامل مع التكنولوجيا الحديثة؛ لأن نظام التعليم الإلكتروني (Online) يعتمد على التكنولوجيا في جميع مراحل التدريس، إذ لا ضرورة للتواجد المكاني بين الطالب والمحاضر، حيث يتطلب من طرفي العملية التعليمية أن تكون لديهما البنى التحتية التكنولوجية، والمعدات اللازمة للتبادل بنيهما، وأن تكون لديهما مهارة التعامل مع التكنولوجيا وأجهزة الحاسوب والهواتف الذكية وبطلاقة.
التعليم الإلكتروني (Online)، ليس تعليمياً تقليدياً مع أنه شديد الشبه به من حيث التفاعل بين المعلم والمتعلم، والاختلاف الوحيد هو تباعد الأماكن بين أطراف العملية التعليمة، هو ليس تعليما عن بعد مع أن المعلم قد يكون بعيداً عن الطالب - في أمريكا والمتعلم في الصين-، هو بحكم خبرتي؛ تعليم حيوي ومباشر، يحوي كل عناصر التفاعل بين المعلم والمتعلم؛ إذ يحضر الطلبة إلكترونياً جميع محاضراتهم التي كانوا من الممكن أن يحضروها في التعليم التقليدي، باللقاء المباشر مع محاضر في مباني الجامعة، يحضرونها فعلياً من خلال غرفهم الافتراضية في منازلهم، ومكاتبهم، ومواقع عملهم، وتتم عملية التفقد للحضور والغياب والتفاعل الدائم من خلال الشاشة.
وفي هذه الحالة يمكن أن تبدأ الجامعات ببعض برامج التعليم الإلكتروني بشكل متكامل بين طرفي العملية التعليمية، وليس بالضرورة بكامل البرامج، لأن التعجل بعملية تطبيق هذه البرامج وممارستها ستفرز عيوباً لا طاقة لها لمعالجتها في آن واحد، وبذلك يمكن للقائمين على الفكرة تجنبها في مقررات أو برامج لاحقة.
ويمكن للمحاضر في التعليم الإلكتروني (Online) أن يرى جميع طلبته في الشعبة التي يدرسها دون استثناء، كما يقوم جميع الحضور برؤيته والتواصل معه، أو التواصل والحوار فيما بينهم مباشرة، كما هو الحال في القاعة الصفية التقليدية، بل ربما أفضل في بعض جوانبها، وتجدر الإشارة هنا إلى أن عدد المحاضرات في التعليم الإلكتروني هو كامل عدد المحاضرات، ثلاث ساعات أسبوعياً مضروبة في عدد الأسابيع، فلو كانت مدة الفصل (16) ستة عشر أسبوعا فإن مجموع المحاضرات سيكون (48) ثمانٍ وأربعون محاضرة، وليس كما في التعليم المدمج (المفتوح)، يكون عدد المحاضرات ساعة واحدة أسبوعياً.
ولتقريب الصورة للذين لا خبرة لهم في التعليم الإلكتروني، فإن العملية تتم تماماً كما نرى الآن في اللقاءات المباشرة التي تجري عبر شاشات المحطات الفضائية، صوت وصورة، ولكن في حالة التعليم الإلكتروني، فإن المحاضر هو الذي يتولى إدارة الصف، وليس المخرج، ولا يسمح لأي طالب بالمغادرة، أو ترك الكاميرا مفتوحة والهروب، أو التهرب، بل تنجز العملية بمنتهى الانضباط والتفاعل، ولا أُراني مبالغاً إذا قلت أن فيها انضباط أكثر من التعليم التقليدي، وهناك إمكانية تامة لدى المحاضر أن يكتب الأمثلة، ويعرضها للطلبة كما يفعل المحاضر في التعليم التقليدي، من خلال نظام إدارة النظام التعليم (LMS Learning Management System)، أو الأنظمة المتعددة المعتمدة في التدريس بالجامعة.
وعلاوة على ذلك فإن هذا النظام التعلم والتعليم الإلكتروني (online): يتميز بأنه يسمح باستخدام التقنيات والبرمجيات الإلكترونية في التعلم والتعليم، لأن التعليم الإلكتروني ممكن أن يكون عن بعد مباشر، أو غير مباشر (online/offline). أي أنه يسمح بالنقاش والحوار من خلال جميع وسائل التواصل الأخرى، وليس فقط الحوار المباشر، وهذا غير متوفر لأنظمة التعليم الأخرى، ويُمكن الطلبة من عمل بنك معلومات خاص بهم، لكل المقررات التي يدرسونها، والاحتفاظ بالمقررات، والمحاضرات، والواجبات والتمارين، والرجوع إليها، وإلى جميع ما طُرح من شرحٍ، أو نقاش بمنتهى الدقة، وهذا يعطي فرصة أخرى للجميع للمراجعة والتثبت أكثر من مرة، وفقاً لرغبات الطلبة واحتياجاتهم لها في الوقت الذي يريدونه، دون الحاجة إلى الحضور إلى مقر الجامعة، إلا في أوقات الامتحانات النهائية، سواء أكانت في بلد الدراسة التي قد تكون في مقر الجامعة الأم، أو أي مقر يتفق عليها بين الطلبة والجامعة، التي قد تكون في عدة دول، وليس فقط عدة مدن متباعدة، إذا كانت الجامعة بعيدة عن بلد الطالب، شريطة أن تتم بالرقابة المباشرة على الامتحان سواء كان ورقيا أم إلكترونياً.
وزارة التعليم العالي والبحث العلمي في المملكة الأردنية الهاشمية، بدأت تعتمد نظام التعليم غير التقليدي الإلكتروني (Online)، وتعتمده من معايير الجودة في التعليم، منذ فترة من الزمن، وأصبحت شهاداتهم تعادل من قبل لجان معادلة الشهادات، كما يتم معاملة خريجي الجامعات بنظام التعليم الإلكتروني، كما هم خريجو جامعات التعليم التقليدي. ومؤخراً وقبيل كورونا وضعت هيئة اعتماد مؤسسات التعليم العالي وضبط جودتها معايير للتعليم الإلكتروني، لاعتمادها وتطبيقها في الجامعات الأردنية الرسمية والخاصة.
هذه دعوة مفتوحة مني؛ لكل القائمين على التعليم في الأردن وزارة التربية والتعليم، ووزارة التعليم العالي وهيئة الاعتماد، ومجلس التعليم العالي لتبني التعليم الالكتروني بشكل رسمي، والاستعانة بالخبرات والخبراء في هذا المجال من كل بقاع الأرض، وأن نبدأ متأخرين خير لنا من أن لا نبدأ أبداً، ولا يظنن أحد أن بعض المقررات التي يجري تدريسها حالياً في عديد الجامعات الأردنية بنظام التعليم الإلكتروني أنها منضبطة، بل لا يعرف الطالب إلا مواعيد الامتحانات، وليس هناك من محاضرات حقيقية في معظم الجامعات، هذه حقيقة مرة ولكنها واقع، اعترفنا بذلك أم وضعنا رأسنا في التراب.