كتب محمد التل
ثلاثون عاما قضيتها في معترك الصحافة اليومية شكلت أكثر من ثلاثة أرباع عمري ، تعلمت خلالها من اساتذة كبار وتدرجت فيها من أدنى درجات السلم المهني إلى أن وصلت إلى رئاسة التحرير ، كانت الدستور وستظل حبيبتي وبيتي الأول ، إذ كنت أقضي فيها يوميا ما يزيد عن الأربعة عشر ساعة ، بين زملائي ، وكثيرا ما كنا ننام في مكاتبنا عندما كانت البلاد تمر أحيانا في ظروف استثنائية ، وظلت الدستور وستبقى سنديانة وأم الصحف الأردنية ، ومن أعتق الصحف العربية ، ومرت الدستور وتمر بظروف مالية معقدة ، خصوصا في آخر خمس سنوات قضيتها فيها ، إذ كنا نصارع أنا وزملائي هذه الظروف ، لتبقى الدستور صامدة ، وستظل بإذن الله تعالى ، والحق يقال ان حكومة دولة الدكتور عبد الله النسور كانت الأكثر تجاوبا معنا في تلك الفترة الصعبة..
أن ما تمر به الدستور من ظروف صعبه هو جزء من أزمة كبيرة تعصف بالصحافة اليومية في الأردن والعالم ، نتيجة ظهور الصحافة الإلكترونية التي اجتاحتنا بشكل كبير ، ولما لهذا النوع من الصحافة مميزات لا تملكها الصحافة الورقية ، أهمها وعلى رأسها السرعة الهائلة في إيصال الخبر للناس ، ولنعترف أننا في الصحافة اليومية في البدايات لم نأخذ هذا الموضوع بالجدية التي يستحقها وأخذتنا العزة بأننا محصصنون بثقة الناس وتمسكهم بالصحافة الورقية ، ولم ننتبه للخطر إلا عندما طرق أبواب مؤسساتنا ، والصحيح أن المؤسسات الصحفية حاولت ولو متأخرة أن تجاري الحدث الكبير ، بتطوير نسخها الالكترونية لتواكب قدر الاستطاعة الظرف الجديد ، ولكنها ظلت أسيرة للمصروفات الضخمة التي تترتب عليها مع طلوع فجر كل يوم ، من أثمان ورق ومصاريف تشغيلية أخرى هائلة ، لأنه للأسف القوانين في الأردن لا تعفي الصحف من أي رسوم وتعاملها معاملة كل الشركات التجارية ، وغاب عن الكثيرين أن هذه الشركات الربح فيها يأتي في آخر سلم أولويات القصد من وجودها ، لذلك طالبنا منذ زمن بأن تقوم الحكومات بإعفاء المؤسسات الصحفية من مختلف أنواع الضرائب والرسوم والجمارك ، حتى يخف الثقل المالي عن هذه المؤسسات ، لتستطيع الاستمرار في مهمتها الوطنية ، لأنها منذ خمسين عاما وهي تحمل رسالة الدولة الأردنية وتقاتل من أجلها ، ولأن الزملاء في كل هذه الصحف سواء في الدستور أو الرأي أوالغد هم خطوط دفاع وهجوم من أجل الأردن ، ويقدمون صباح كل يوم للناس وجبة دسمة من السياسة والفكر والثقافة والرياضة..
وحرام اليوم أن يقف مصيرهم ومصير أرزاقهم في مهب الريح ، ومن غير المنطق والمعقول أن تترك الصحافة اليومية لكي تموت موتا بطيئا ويبقى الأردن بلا صحف ، حيث لا توجد أي درلة في العالم بلا صحف .إنقاذ الصحف اليومية لا يتطلب مبالغ ضخمة بل من الممكن ومن السهولة بمكان إذا توفر القرار السياسي لإنقاذها أن تحل معضلتها بشكل معقول يؤمن استمراريتها ويحفظ لأبنائها العاملين بها من صحفيين وكوادر فنية أرزاقهم ومهنتهم .
إن الدستور والرأي والغد مؤسسات وطنية كبرى قدمت للبلد أكثر مما قدمت معظم الشركات على الساحة الأردنية ، وكانت منابر حق تدافع عن الأردن بكل قوة ، وكان حبر أبنائها يقطر وفاء وانتماء للأردن كدولة بكافة مفاصلها ، لذلك من الواجب على الجميع أن يقفوا اليوم إلى جانب هذه المؤسسات والزملاء فيها ، حتى تعبر هذا المنعطف الخطير الذي يهدد وجودها ، لتظل تؤدي واجبها الوطني بكل قوة واقتدار .
والله من وراء القصد ...