مدار الساعة - وعد التميمي - كيف للمعالم أن تروي التاريخ بدقة متناهية، كيف لها أن تكون المسافر و السفير.
هل لنا القدرة على إستحضار التاريخ أو ربما إستحداث مظاهرهُ في يومنا هذا!
هذه الأسئلة شكلت جزء من التفكير إثناء البحث الذي قمتُ به للتعرف على ملامح الساحة الباريسية الواقعة بالويبدة- عمان.
والدي و أعمامي يذكرونه بدوار الحاووز، أنا وأصدقائي نعرفه بأسم باريس!
كان لتوالي الهجرات إلى عمان أثر في إزدياد حاجة السكان للمياه وتلك الفترة التي تعود إلى ما بعد تأسيس إمارة شرق الأردن، فمن هنا جاء دور الحاووز و الحاووز كلمة عثمانية تعني الحوض أو الخزان الذي يُجمع فيه الماء.
وقد أخذ الحاووز أشكال متعددة منها الدائري ومنها المكعب في مناطق مرتفعة من جبال عمان، وكان حاووز جبل عمان الثاني بعد حاووز نبع رأس العين .
بين اسم الحاووز واسم باريس سنوات محدودة قد لا تذكر على عمر الدوار، لكن ما إن بدأنا بالتعرف على قصة كل اسم لوجدنا أحداث تاريخية هامة تخبرنا عنها تلك الاسماء، قد تكون نقطة تحول مفصلية في حياة الشعب بل و تُسجل فيما بعد بقائمة تراثهم و وجدانهم!
كان يُدعى دوار الويبدة بالحاووز وما زال الاسم المتعارف عليه عند معظم من عَرِف الويبدة قديماً، نظراً لتواجد ذلك الخزان في وسطه وتوزيعه للماء لكافة المناطق.
عام 2003 قامت السفارة الفرنسية بتقديم منحة ضمن إطار معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين بلديتي عمان وباريس عام1987 لإعادة إحياء الدوار كمساحة تجمع أهالي المنطقة و لقرب "المعهد الثقافي الفرنسي" منه حيث يُعد أقدم معهد ثقافي أوروبي في الأردن.
حينها بدأت أمانة عمان الكبرى بإعداد التصاميم والمخططات بالتعاون مع السفارة الفرنسية منذ ذلك الوقت وحتى الافتتاح في حزيران 2004.
معالم الساحة الباريسية في عمان
- نافورة والاس
- عمود موريس
- إنارة شانزليزيه
- بالاضافة الى السياج والمقاعد الخضراء
والاس في وسط الساحة
من الغريب أن يصبح دوار باريس معلم لنا نحن جيل الشباب للإلتقاء و ربما الإستدلال به، دون أن ندرك من أين جاء الاسم وما علاقته بباريس!
هل هو مجرد تمثال أنثوي أم له غاية أخرى؟!
في قلب ساحة باريس تتمركز نافورة تدعى ب "والاس" تلك النافورة تعود إلى فترة تاريخية هامة في حياة الشعب الفرنسي، فترة تروي حصار مدينة باريس من قبل الجيش الألماني عام 1870 إبان الحرب البروسية الفرنسية أو ما تُدعى بالحرب السبعينية نجم عنها تدمير للقنوات المائية التي كانت تزود باريس بالمياه. مما أدى إلى إرتفاع سعر المياه النظيفة بشكل كبير. حتى قيل أن النبيذ كان أرخص من الماء الصالح للشرب مما شجع أكثر الفقراء على شرب الخمر.
الصورة من أرشيف المكتبة الرقمية العالمية
المأساة الباريسية و إنتشار الأمراض وكثرة الجوع والعطش دفع الرجل البريطاني "ريتشارد والاس"(1818-1890) إلى التفكير بمساعدة البلد الذي عاش بها وفضلها عن أي مدينة أُخرى، فقام بتزويد المدينة بخمسون نافورة ماء عامة ليشرب منها الناس بفترة قياسية بالتصميم والانجاز.
كان بإمكان ريتشارد تقديم المساعدة بأي شكل يفي بالحاجة لكنه قام بتصميم النافورة بنفسه مستلهمًا إياها من نافورة الحوريات التي تعد أقدم نافورة ضخمة في باريس، مُراعياً بعض الأمور، أهمها أن تكون عمليّة وجميلة تعكس شي من روح المدينة التي يعيش بها.
بعد ان أنهى ريتشارد التصميم المبدئي، إستدعى النحات الفرنسي تشارلز أوغست ليبورج، لتكملة النموذج المقرر بتلك المعايير:
- أن يكون إرتفاعها متناسق مع البيئة المحيطة، أي ألا تكون طويلة جداً ولا قصيرة بل يستطيع الناس رؤيتها من بعيد.
- إستخدام مادة تصنيع سهلة التشكيل والصيانة، صلبة ومقاومة للعوامل الجوية، بتكلفة معقولة لتمكنه من إنجاز عدد كبير منها فاستخدموا الحديد.
- كما فضل إختيار اللون الأخضر الداكن لتندمج مع حدائق المدينة و الطرق التي تصطف على جانبيها الأشجار، لكنها توفرت بألوان أكثر بهجة من اللون الأخضر مُشكلة أيقونة ملفتة عن المعتاد في دول أخرى كلون الشمس الأصفر و اللونيين الأزرق والزهري.
نوافير والاس بألوان متعددة:
افتتاح أول نافورة للعامة كان في اغسطس عام 1872 في شارع دي لا فيليت، و لك أن تتخيل حجم الجمهور على أول عين سبيل في ذلك الوقت من الحاجة، يُقال إنها بقيت محاطة بالعامة وحتى أربع سنوات من وجودها في سبيل الحصول على كوب ماء، وفي عام 1952م قام مجلس النظافة العامة بإزالة الكاسات النحاسية التي كانت تستخدم للشرب خوفاً من إنتقال الأمراض.
عام 1932
التماثيل الأربعة- نافورة والاس
نأتي الى ما تمثله التماثيل الأربعة في النافورة من بُعد أنثوي يُجسد اللطف والبساطة والإحسان والرصانة فكل حورية منهن تجسد فصل من فصول السنة، للنظرة الأولى لهن تعتقد إنهن متشابهات لكن في الحقيقة هناك إختلاف فيما بينهم في إغماضة العين والإبتسامة وبالرداء الذي أخذ يغطي أجزاء من أجسامهن ولكم ان تتأملوا تلك الإختلافات حين زيارتكم لها.
أما الماء فهي تتسرب من أعلى القبة المدببة المزركشة بالزنابق والدلافين والزخارف النباتية، و زهرة الزنبق fleur-lys تَكثر في التصاميم الفرنسية المعمارية وفي الملابس العسكرية والأزياء الملكية رمز إلى الدين الكاثوليكي أو الثالوث.
بينما قاعدة النافورة مصلبة الشكل تنشأ منها زوايا عريضة مزينة بمحارات تتدفق منها سلسلة من اللآلئ لما المحار؟ إشارة إلى التعميد و الخصوبة أما اللؤلؤ ليمثل النقاء والحكمة.
بين اللآلئ هناك ألواح نحتت بثعبان ملتفة حول رمح بثلاث رؤوس" Trident " رمح الصيد الذي أرتبط بمثيولوجيا اليونانية و السومرية فقد كان بوسيدون آلهة البحر لدى اليونان يحملها بيده بها ضرب أعلى صخرة الاكروبوليس في اثينا وتفجرت المياه هكذا تسرد لنا الاساطير.
يقدر أنه بحلول عام 1871 كان قد تبرع بمبلغ 2.5 مليون فرنك للمحتاجين من باريس أي ما يعادل 6.5 مليون دولار .بعد ذلك أشتهر بفرنسا و حصل على رتبة الشرف و تم تسمية شارع باريس بإسمه.
صورة توضح انتشار نوافير والاس في فرنسا
صورة أخرى توضح نوافير والاس بتصاميم مختلفة عن الأصل في فرنسا
عندما تم تصميم نافورة والاس تم تصميم ثلاث نماذج لاحقة مشابهة للتصميم الأصلي لذلك قد تجدها باحجام متفاوتة، انتشرت في العديد من الدول الأوربية، في العواصم وكذلك في المدن الأصغر حجماً مثل: ليسبورن، أيرلندا الشمالية، مونتريال، كيبيك، لوس أنجلوس، لندن، حيفا، جنوب إفريقيا، البرازيل، إسبانيا، البرتغال، سويسرا، الصين وحتى في تبيليسي في جورجيا!
أشار كتاب "حيفا الكلمة التي صارت مدينة" إلى الساحة الباريسية في مدينة حيفا و الذي يهدف إلى
التعريف بتاريخ المدينة و نقل صورة حقيقية عن واقع الحياة قبل نكبة 1948، وما حلّ بها من دمار وخراب.
"ضمن مشروع تهويد المواقع العربية في حيفا، إضافة إلى هدم عشرات بل مئات المحلات والبيوت في البلدة داخل الأسوار، شهدت ساحة الحناطير مسلسلاً من الهدم والطمس للمعالم العربية، فاختفت عن وجه البسيطة مبانٍ كثيرة ولم تعد قائمة أبداً. ولم تكتف بلدية حيفا بذلك،و إنما طبقت سياسة حكومة بن غوريون، ألا و هي "إذا هدمت المكان فغير اسمه أيضاً لتختفي آثاره المادية والثقافية حتى لا يمكن معرفة هوية هذا المكان". وهكذا انتهزت بلدية حيفا فرصة مد مترو بين ساحة الحناطير و مركز الكرمل على يد شركة فرنسية فغيرت الاسم من ساحة الخمرة (الاسم الرسمي) إلى ساحة باريس. و أي باريس هذه!! لا صلة للمكان بباريس وإنما الهدف هو إخفاء المعالم العربية عنه" .
- عام
عطاء مستدام
من جميل الذكر فيما يتعلق بذلك الموروث التراثي الفرنسي لدى سكان المدينة، تقوم مبادرات شبابية بتعاون مع السلطات لتشجيع أهالي المنطقة والاسياح للإنتفاع من مياه والاس بدلاً من إستخدام الزجاجات البلاستيكية الضارة بالبيئة! خاصة إنه يتم قطع الماء عنها خلال فصل الشتاء لتجمد المياه والحاق الضرر في السباكة الداخلية فهي تعمل من منتصف اذار وحتى منتصف تشرين الثاني.
نافورة لا يتجاوز ارتفاعها ثلاثة أمتار، تم جلبها من موطنها باريس إلى الأردن كسفير لكل تلك الحكايات التي ترويها كأنها خلدت ذكرى رجل أستثمر ثروته في المساعدة وقت الحرب و رسمت جزءً من التراث وقت السلم للأبد....أما الحاووز لم يتبقى منه سوى اسمه في وجدان من شهد تواجده.
المراجع
https://www.brossy.ch/produit/fontaines-wallace/
https://frenchmoments.eu/wallace-fountains-paris/
https://www.wikiwand.com/fr/Fontaine_Wallace
http://jipai.over-blog.com/2016/11/fontaine-wallace-a-saint-pierre-vaucluse-84.html
https://parisianfields.com/2013/05/12/the-man-who-gave-paris-50-fountains/
http://invisiblebordeaux.blogspot.com/2013/06/the-wallace-fountains-of-bordeaux.html
https://www.wdl.org/ar/item/7086/
http://eaudeparis.fr/carte-des-fontaines/
https://en.wikipedia.org/wiki/Wallace_fountain
كتاب حيفا الكلمة التي صارت مدينة للكاتب د.جوني منصور
Wikimedia Commons
وعد التميمي
مؤسسة مبادرة مشكاة للتراث
Wa3d.tamimi@gmail.com