مدار الساعة - لا جدال في أن “التاريخ” يمثل رافدًا مهمًّا من روافد الوعي والمعرفة، ورصيدًا لأي أمة تمتح منه زادًا لحاضرها ومستقبلها.. ونحن المسلمين في أمسِّ الحاجة لإعادة قراءة تاريخنا، ومراجعة ما يتصل به من قضايا الفكر والنهوض والتجدد الحضاري؛ حتى نكون على بصيرة من خطواتنا ومسيرتنا.وفي هذا الحوار نتوقف مع الأكاديمي الجزائري د. مولود عويمر، لنقلب معه صفحات فكرية وأوراقًا حضارية تتصل بالتاريخ والحضارة وإشكالياتهما.
ومولود عويمر أستاذ التعليم العالي بقسم التاريخ بجامعة الجزائر2، حصل على الليسانس في التاريخ من جامعة الجزائر (1991)، ثم على الدكتوراه في التاريخ المعاصر من جامعة باريس (1998)، وعمل أستاذًا للتاريخ والحضارة في المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية بباريس (2002- 2004). ترأس فرقة بحث (تراث الحركة الإصلاحية الجزائرية) ضـمن مخبر المخطوطات، وأشرف على مجموعة رسائل جامعية (الماجستير والدكتوراه) في تـاريخ الأفكـار، كما شارك في عدد من الملتقيات الدولية في الجزائر وخارجها، وصدرت له مجموعة كتب، منها: (الإسلام والغرب بين رواسب التاريخ وتحديات المستقبل)، (تراث الحركة الإصلاحية الجزائرية؛ 3 أجزاء)، (مالك بن نبي رجل الحضارة.. مسيرته وعطاؤه الفكري)، (اللغة العربية في المهجر.. الفرص والعوائق)، (أعلام وقضايا في التاريخ الإسلامي المعاصر)، (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.. مسارات وبصمات).. فإلى الحوار:
– كيف ترون مفهوم “الحضارة الإسلامية”؟
الحضارة هي نتاج الإنسان في الزمان والمكان وفق رؤية فكرية خاصة. وإذا حصرنا هذا الجهد في رقعة جغرافية معينة وفي عصر معين وفق رؤية معينة، نسبنا هذا الجهد البشري إلى هذه المعالم الثلاث؛ فقلنا على سبيل المثال: الحضارة الإسلامية في بغداد في العصر العباسي، أو الحضارة المسيحية في روما.
وهكذا ظهرت حضارات عديدة عبر العصور وفي أماكن مختلفة وفق رؤى متعددة، في مصر والعراق والصين والهند.. وتضمنت كتب التاريخ حروبًا كثيرة بين هذه الحضارات لأسباب سياسية أو اقتصادية أو دينية، وغيرها من الأسباب التي ذكرها المؤرخون. وقد ترتب عن ذلك زوال حضارات وبقاء حضارات أخرى.
والحضارة الإسلامية- التي كانت دائمًا متصلة بالدين الإسلامي وشرائعه وقيمه- احتفظت بخصوصياتها وشخصيتها وكيانها، رغم ما تعرضت له من محن وحروب ودمار عبر العصور؛ وما زالت تقاوم دائمًا من يحاربها، وتواصل سيرها نحو المستقبل.
– ما أبرز مميزات هذه الحضارة؟
تميّزت الحضارة الإسلامية بالحيوية والمرونة، وقد استطاعت أن تنتشر بسرعة كبيرة في العالم حاملة معها تراثها الفكري وإنتاجها العلمي ولغتها العربية. واحترمت في كل مرة الخصوصيات الثقافية للشعوب التي وصلت إليها، فكرست الوحدة بين المسلمين وحافظت على تنوعهم.
بل إن هذه الحضارة ازدهرت في الحواضر البعيدة عن مهبط الوحي ومركز الدولة الأولى، أي مكة والمدينة؛ إذ عرفت أوجها في دمشق وبغداد والقاهرة وطشقند وسمرقند وأصفهان والقيروان وبجاية وتلمسان وفاس وغرناطة والقسطنطينية… إلخ.
ولقد عاش الناس في رحاب الحضارة الإسلامية في نسيج اجتماعي قوي واستقرار سياسي متواصل، وثراء ثقافي مزدهر ورخاء اقتصادي عام. وكلما صار خلل في مقوّماتها بانتشار الخمول والانشقاق والغلو اضطربت الأحوال وكثرت الأهوال.
– هل الحضارة الإسلامية قادرة على التجدد؟ وكيف ذلك؟
الحضارة الإسلامية بقيت إلى اليوم، بينما اندثرت حضارات قديمة كثيرة كما بيّن ذلك المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي في كتابه النفيس: (دراسة للتاريخ). والسر في بقائها يتمثل في طبيعتها ومميزاتها التي توفر لها شروط البقاء، فضلاً عن تكيّفها مع عناصر التجدد الطارئة عليها خلال مراحل تطوّرها.
فهي صاحبة أكبر الديانات السماوية المنتشرة في العالم، وتملك لغة مشتركة عالمية وهي العربية، وتزخر بالرصيد الحضاري المتنوع والمتفتح، وتحظى بالثروات الطبيعية التي تؤمِّن لها الأمن والرخاء المادي ووسائل أداء رسالتها الإنسانية؛ فإذا وعى المسلمون هذه المؤهلات، واستثمروا في هذه القدرات، حافظوا على رصيدهم الحضاري واستأنفوا دورهم المنشود وواصلوا بناء صروح حضارية جديدة.
– ما دور “التاريخ” في التجدد الحضاري المأمول؟
التجدد الحضاري في كل التجارب الإنسانية هو قبل كل شيء حركة إحياء لعناصر القوة الكامنة في أغوار التاريخ وتحيينها وتمديدها بمصادر القوة المتوفرة في الواقع، من الأمل والطموح والعزيمة والعمل. وأشرح هذه الفكرة بالمثال التالي: كل سائق يحتاج إلى النظر إلى الخلف حتى ينطلق بسيارته في أمان. وهو يضطر في كل مرة أن ينظر إلى المرآة الأمامية والخلفية ليغيّر اتجاهه أو يحدّد سرعته.
فهذه الحركة الضرورية لسلامة المرور والسير قُدما قد يعتبرها السائق في البداية أمرا متعبا لكن مع الوقت يتدرب عليها ويقوم بها بشكل تلقاء، ولا يحيد عنها بل إذا حاد عنها وقع المكروه. هكذا يجب أن تكون معاملتنا مع التاريخ، نتقدم ونسير نحو الأمام لكن بدراية وبصيرة نستمدها من ماضينا، ونتزوّد بالإرادة والحزم والإقدام والعمل في حاضرنا، ونضع الثقة في أنفسنا ونتفاءل خيرًا في المستقبل.
يجب على الإنسان المسلم أن يستشعر دائمًا بأنه ينتمي إلى حضارة عريقة ساهمت في تقدم البشرية، ومازالت آثارها قائمة إلى اليوم في البلدان العربية والإسلامية وفي صقلية في جنوب إيطاليا وفي الأندلس، ويجب أن يدرك أيضًا أن الحضارة تسير في دورة مستمرة، تنتقل من الشعوب والأمم التي استنفذت دورتها إلى الشعوب والأمم الناهضة. وسيأتي دور الريادة والقيادة للمسلمين حينما يستوفون شروط الإقلاع الحضاري.
– كيف ننتقل في علاقتنا مع التاريخ من التعامل المتحفي، إلى التعامل الحي؛ أي باعتبار التاريخ نهرًا يجري، لا بركة ماء راكدة؟
كل الشعوب تعرف فترات الخمول التاريخي، وتشعر بثقل الزمن. وهذا ما عبر عنه المؤرخ الفرنسي جاك لوغوف بـ”العصر الوسيط الطويل”، وعبّر عنه المؤرخ البريطاني إيريك هوبسباوم بـ “القرن العشرين المتأخِّر”.
والتاريخ يستمد قوته وحيويته من حركة المجتمع وتفاعل الأفكار، وكذلك من نشاط المؤرخ بما يقدمه من نصوص تاريخية ومواقف شريفة في المجتمع بإسهامه في رفع معنويات أفراده، وإحياء رموز النجاح، واستحضار قيم التميّز، وبث روح البناء. ففي اللحظة الفاصلة والحاسمة يتصالح الناس مع ماضيهم لأنه أصبح مصدرًا للإلهام ومحفّزًا للعمل وضامنًا للتقدم.
وأذكر هنا نموذجًا واحدًا؛ ففي عام 1870 انهزمت الإمبراطورية الفرنسية أمام الدولة الألمانية الفتية، فانتشر الشعور بالخيبة عند الشعب الفرنسي، والإحساس بمرارة النكسة لدى النخبة الفرنسية. أما المؤرخ إرنست لافيس فقد انقطع عن العمل، وسافر إلى ألمانيا واستقر فيها 3 سنوات من أجل الإجابة عن الإشكالية التالية: لماذا انهزمت فرنسا وانتصرت ألمانيا؟ وجمع خلال إقامته في هذا البلد المنتصر كل ما له صلة بتاريخ وواقع إمارة بروسيا التي كان لها الفضل في توحيد الإمارات الألمانية الأخرى وتأسيس ألمانية الحديثة. وقدم هذا العمل كأطروحة دكتوراه في التاريخ جامعة باريس في عام 1875 وبيّن فيها مصادر القوة الألمانية وعلى رأسها جودة التعليم والاهتمام ببناء الإنسان الجديد الفعال.
إن استحضار التاريخ كان دائمًا حاضرًا في المنعرجات وفترات التحوّل عند المجتمعات الحية، التي تستعين بمؤرخيها لاستحضار الماضي لفهم الحاضر والاستشراف للمستقبل؛ بينما نحن نستحضر التاريخ في مناسبات محددة ونحتفل به ثم ننسى دروسه ولا نتعظ بعبره الساطعة.
ولا يمكن أن نستغرب من حضور المؤرخين في وسائل الإعلام الغربية وإسهامهم في توعية شعوبهم وتوجيه رأيها واتخاذ مواقفها على ضوء معطيات واضحة. وأذكر هنا برنارد لويس وبول كينيدي في الولايات المتحدة الأمريكية، ورنيه ريموند ومارك فيرو وجاك لوغوف في فرنسا، وإيريك هوبسباوم في بريطانيا… إلخ.
– هل أعطى القرآن الكريم للتاريخ معنى مميزًا؟
القرآن هو كتاب سماوي يتضمن أيضًا قصص الشعوب والأمم السابقة، وفترة البعثة والرسالة المحمدية. فمن هذا الجانب هو مصدر للمؤرخين الذين يشتغلون على التاريخ القديم وصدر الإسلام. وقد أثبتت البحوث الحديثة في مجالات متعددة خاصة في ميدان علم الآثار تطابقَ تلك المعلومات مع ما توصل إليه العلماء في العصر الحديث والراهن.
فالتاريخ هو حجة علمية للاستدلال في قضايا اجتماعية وإنسانية، ومنهج لإقناع الآخر بالبرهان؛ وليس باعتباره فقط مجموعة من الأحداث الماضية والأخبار الغابرة عن الأيام الخالية.
وتدوين القرآن لتلك الأحداث الغابرة واستحضارها في حياة المسلمين في كل عصر هو تثبيت لها، وإضفاء صفة الواقعة التاريخية عليها بكل ما تحتويه من مواصفات دقيقة وحقيقية. ومن جهة أخرى يقدم القرآن منهجًا في النظر إلى الماضي وأهمية تفسيره، وضرورة استلهام العبر والقيم منه.
– المناهج العربية الدراسية.. هل ترسم ذهنية صحيحة عن تاريخنا؟ وكيف نصحح المسار؟
لم يتوقف المؤرخون والمفكرون العرب عن الحديث عن ضرورة تجديد المناهج الدراسية العربية، سواء تعلق الأمر بالتاريخ أو العلوم الأخرى؛ من أجل الولوج إلى عصر التقدم. والدعوة كانت تلح على إعادة كتابة التاريخ وفق الطرق الحديثة، ليس فقط من جانبه الشكلي بتحديث الوسائط البيداغوجية التي هي ضرورية، وإنما أيضًا بتطبيق المنهج العلمي الحديث وأدواته التفكيكية والتحليلية والتركيبية.
وأنا شخصيًّا لا أعارض كل هذه الخطوات العلمية، وإنما يجب الأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات الثقافية والنفسية لمجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولا نطبقها بحذافيرها خاصة في جانب تفسير الأحداث وتأويلها.
– مفكر الحضارة مالك بن نبي له رؤية متميزة عن التاريخ.. ما أبرز معالمها؟
الفيلسوف أو المفكر لا يعود إلى التاريخ ليكتب قصته، أو يؤرخ لفترة معينة و إنما يتعامل مع التاريخ باعتباره سندًا للفكرة التي طرحها وإن اقتضى ذلك تأويله تأويلاً خاصًّا. وربما يعود إلى الذاكرة الجماعية أو الأسطورة لإثبات صحة فكرته إذا لم يجد في التاريخ ما يدعمه من حجج دامغة. بينما المؤرخ ينطلق من الحدث التاريخي الموجود ليضع له فلسفة أو نظرية؛ فمقاربة الفيلسوف تختلف عن مقاربة المؤرخ.
وهذه الفكرة تنطبق على مالك بن نبي الذي كان مفكرًا ولم يكن مؤرخًا، لذلك نظر إلى التاريخ في كلياته وليس في جزئياته، ووضع على ضوئها مشروعه الفكري (مشكلات الحضارة)، ولخص قرونًا من تاريخ الإسلام في المخطط البياني حيث قسَّمه إلى 3 مراحل: مرحلة الروح، مرحلة العقل، ومرحلة الغريزة؛ ودرس كل مرحلة بمميزاتها.
ولقد سبقه علماء آخرون إلى تفسير التاريخ وتقسيمه إلى 3 مراحل أذكر منهم مثل ابن خلدون الذي قسم التاريخ إلى 3 مراحل وهي: البداوة، والتحضر، والتدهور. وكذلك قسمها الفيلسوف الإيطالي فيكو إلى: الآلهة، والأبطال، والإنسان. وثمة أيضًا اجتهادات العلماء المعاصرين لبن نبي، مثل شبنغلر وتوينبي… لكن ما يميّز بن نبي عن هؤلاء كلهم هو وضوح أفكاره وعمقها؛ وذلك بفضل استعانته بالرياضيات والمنطق العملي في طرحه وتحليله.
وبناءً على دراسة الأعمال التاريخية الكبرى التي قرأها مالك بن نبي، توصل إلى وضع نظرية في (الحضارة)، التي لخصها في معادلة رياضية جمعت بين 3 عناصر، وهي: الإنسان والوقت والتراب. وجعل الفكرة الدينية أو العقيدة هي المحرّك للعناصر الثلاثة. وكثيرًا ما اعتبر (العامل الديني) أهم العوامل في حركة التاريخ، وأحيانًا فسَّر الحدث بدوافع نفسية ذات خلفيات دينية.
– كيف ترون جهود المستشرقين في تناول التراث الإسلامي، السلبيات والإيجابيات؟
المستشرقون لا ينتمون إلى مدرسة واحدة أو مذهب واحد، فمنهم من تخصص في دراسة الشرق ليضع علمه في خدمة المشروع الاستعماري الغربي. وأذكر هنا على سبيل المثال المستشرق الهولندي سنوك هورخرونيه، أو المستشرق الألماني البارون ماكس فون أوبانهايم، وكذلك المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون في بدايات حياته العلمية.
بينما هناك مستشرقون خدموا التراث العربي الإسلامي خدمة جليلة، بتحقيق كتب لا تعد ولا تحصى وترجمتها إلى اللغات الأوروبية، ودافعوا عن إسهام المسلمين في الحضارة الإنسانية. وأذكر هنا للقارئ على سبيل المثال: المستشرق الهولندي أرند جان فنسنك، الذي وضع (المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الشريف) قبل ظهور الكمبيوتر واختراع المواقع الالكترونية المعروفة في مجال البحث.
كما يوجد مستشرقون لم يكتفوا بكتابة تاريخنا وإنصافنا في أعمالهم بل دافعوا عن القضايا العربية المعاصرة، كثورة التحرير الجزائرية والقضية الفلسطينية. وأذكر منهم الفرنسيين مكسيم رودنسون وجاك بيرك، والأمريكي جون إسبوسيتو، والألمانيتين زيغريد هونكه وآنا ماري شميل… إلخ.
وهناك أيضًا من خطا خطوات أكثر نحو الأمام واعتنق الإسلام؛ مثل المستشرقة الفرنسية الدكتورة إيفا دوفيتري ميروفيتش؛ التي أوصلتها دراستها العميقة للإسلام إلى اعتناق هذا الدين الحنيف في سنة 1950، وألفت عدة كتب في الفكر الإسلامي ترجمت بعضها إلى لغات عالمية متعددة.
– ما أثر غياب كثير من الوثائق والحقائق عن تاريخنا المعاصر، في عدم تكوين رؤية صحيحة عن واقعنا؛ وبالتالي في محاولة الانعتاق من أزمتنا الحضارية الراهنة؟
الأرشيف الموجود في الدول العربية جله غير مسموح بالاطلاع عليه؛ فالباحث الذي يريد كتابة تاريخ المغرب العربي يضطر للسفر إلى فرنسا والبحث في مراكز أرشيفها، ومن يريد كتابة تاريخ المشرق العربي يضطر إلى السفر إلى بريطانيا.
وهنا تُطرح مشكلتان أساسيتان: المشكلة الأولى تكمن في مدى إمكانية الباحث في الحصول عليها والسماح بقراءتها والاستفادة منها. أما المشكلة الثانية فإنها تكمن في نوعية الوثائق ومصداقيتها حيث أنها تعبر عن وجهة نظر من كتبها من رجال الإدارة والعسكر والأمن. وفي كل الحالات، مازال تاريخنا المعاصر يُكتب من خلال الوثائق والأرشيف الموجودة عند الدول المستعمرة السابقة.
ولابد أن أشير أيضًا هنا إلى رفض العديد من العائلات العربية التي تحتفظ بوثائق أبنائها الأعلام في مجالات مختلفة، ولا ترغب في إيداعها في مراكز الوثائق الوطنية أو تقدمها للباحثين ليستفيدوا منها، عكس ما هو سائد في الدول المتقدمة؛ حيث تحرص العائلات الكبرى على تحويل بعض بيوتها إلى متاحف أو مراكز بحوث تسلم لها كل وثائقها ليشتغل عليها الباحثون، وتخصص جوائز تشجيعية لمن يكتب بحثًا أو كتابًا نفيسًا معتمدًا على هذا الرصيد الوثائقي.
غير أننا لا ننفي أبدًا إقدام بعض الباحثين- بالتعاون مع عدد من العائلات- على نشر الوثائق النادرة لأعلامنا المعاصرين؛ وهي مبادرات تدعم حقًّا البحث التاريخي، وتحفّز المؤرخين على الكتابة التاريخية بنظرات جديدة.
– ما أبرز الأدوات اللازمة لصناعة مؤرخ معاصر ينتمي للمدرسة الخلدونية؟
قدَّم العلامة عبد الرحمن بن خلدون في كتابه (المقدمة)، الذي ألفه في قلعة بني سلامة الواقعة بالغرب الجزائري بين 1375 و1378م، وصفةً علميةً لكل من يهتم بقراءة التاريخ أو يشتغل بالكتابة التاريخية؛ ولم تكن إسهاماته الإبداعية مقتصرة على تحرير التاريخ وتعريفه تعريفًا جديدًا بوصفه علمًا قائمًا بذاته، وفنًّا متصلاً بالجماليات من الذوق والشغف والخيال، وإنما وضع أيضا منهجًا نقديًّا لكتابته بصورة واضحة وموضوعية.
ولقد اعترف له بهذا الفضل العلمي كل من اشتغل على تراثه من العلماء العرب والمسلمين؛ مثل علي عبد الواحد وافي، وعبد الله شريط، وعماد الدين خليل، وغيرهم؛ أو من العلماء الغربيين مثل البارون دي سلان، وفرانز روزنتال وإيف لاكوست، وغيرهم.
غير أن المؤرخين العرب والمسلمين لم يستفيدوا كثيرًا مما تركه ابن خلدون، بينما استفاد المؤرخون الغربيون مما كتبه مؤرخوهم العمالقة وواضعو المنهج التاريخي المعاصر؛ مثل: المؤرخ الألماني ليوبولد فون رنكه، والمؤرخ الفرنسي مارك بلوك وفرناند بروديل..
وصناعة المؤرخ المعاصر لا تعني القطيعة مع النظريات والمناهج القديمة، وإنما هنالك مواصفات أخلاقية وعلمية ثابتة وأخرى متجددة يلتزم بها المؤرخ في كل عصر ليؤدي مهنته، ويقوم برسالته على أحسن وجه. وألخّصها في الكلمات التالية التي اعتبرها بمثابة دفتر شروط مهنة المؤرخ: الأمانة، المصداقية، العزيمة، الجدية، التجديد، الحس النقدي، الخيال الواسع، اللغة السليمة، العمل المستمر، الإصرار على النجاح… إلخ.
ولا يمكن أن تحقق هذه المواصفات كما ينبغي وكما نطمح، إلا إذا تم توفير البيئة المساعدة على الإبداع وصقل المواهب؛ من توفير الحرية الفكرية وإمكانيات البحث العلمي ووسائل النشر والترويج.