وهذا ما لمسه بلغاء العرب قديما من أصحاب اللسان، فأرخوا له العنان، وجرهم من ألسنتهم إلى الإيمان.
فلو عبر الناس بهذا التركيب، على هذا النحو من الترتيب المتوقع في اللسان العربي، هل سيؤدون المعنى نفسه المقصود في البيان القرآني؟!
يستحيل ذلك ولا يكون!
لله! …جعلوا لله! فالاعتراض ابتداء منصب على كونهم جعلوا لله!
ثم قدم المفعول الثاني على الأول فقال:شركاء! فانصب الاعتراض في المرتبة الثانية على جعلهم الشركاء عموما..
ثم أخّر ذكر الجن؛ لأنها ليست موضع العناية والاهتمام، وإنما ورد ذكرها من واقع الحال..
وأمعن النظر وأنعم الفكر في قوله تعالى : (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) [سورة النحل 112]
إذ يستوقف هذا البيان المعجز أساطين اللغة، ويشد انتباهم إلى ما فيه من دقة النظم والإحكام؛ بما هو مغاير للمتوقع في مألوف الكلام!
ذلك أنَّ الإذاقة يلائمها الطعم للجوع والخوف؛ فيرد الكلام على نحو: ( فَأَذَاقَهَا ٱللهُ طعمَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
وأنَّ اللباس يلائمه لفظ الكساء؛ فيرد التعبير على نحو: ( فَكساهَا ٱللهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ)
ولك أن تنظر بعين البصيرة، وتتأمل بذائقة البيان أرقى بيان بشري عربي قبل نزول القرآن، وهو الشعر الجاهلي الذي ذاع صيته في أمة البيان، التي تفردت من بين أمم الأرض بأن أقامت للكلمة سوقا، إذ كانت المفاخرات الشعرية، والمبارزات البيانية صورة بارزة واضحة لهذا السمو البياني، في اللسان العربي، فبلغوا من اللغة مبلغا عظيما، أصابوا بها الشوارد والأوابد، وأبانوا بها عن كل سانحة وبارحة؛ حتى إذا أخذت لغتهم زخرفها وازيَّنت، وظن أهلها أنهم قادرون عليها؛ نزل القرآن ببيانه المعجز الآسر الذي طوّح بقواهم البيانية، وانحنت نواصيهم أمام ناصية بيانه، وجرهم من ألسنتهم وزمام البيان، إلى محاريب الإيمان!
وعندما نتحدث عن الإعجاز الذي انماز به البيان القرآني على غيره من بيان البشر هنا، وعلو كعبه في أسلوبه وصوره البيانية على سائر البيان العربي؛ فإن أدل شواهد الإعجاز على ذلك هي الموازنة بين صور المعاني، و كيف عبر الشعراء في بيانهم البشري عن معنى من المعاني، وكيف ورد تعبير القرآن عن المعنى نفسه؛ لنقف على سر التميز؛ و نستبصر آفاق العروج البياني في التعبير والإحكام.
وإنه ليسحرك البيان العالي في قوته وبراعة نظمه وسبكه؛ وينماز عن غيره ببراعته وقوة تأثيره وعمله في النفوس.
وتأمل فوارق التعبير والصورة بين البيانين؛ لتقف بنفسك وتحلق بفكرك في معارج البيان القرآني، وعلو كعبه على البيان البشري، ذلك أن قول الشاعر: (مسَّ) استعمل فعل المس وهو دون ( بلغ) في الدلالة؛ على شدة الخوف والفزع؛ لأن (بلغ) فيه دلالة على بلوغ المنتهى في الفعل والقصد، وهو كذلك إذ بلغت القلوب أقصى ارتفاعها فزعا ووجلا وتحركت من مكانها، اضطرابا ووجيبا وحركة، حتى انتهت إلى الحناجر في ارتفاعها، وهو ما لا نجده في قول الشاعر من دلالة المس في هذا المقام.
ثم إن الشاعر قلب الصورة الحركية، إذ جعل الحناجر هي التي تنكمش باتجاه القلوب، فجعلها فاعل المس، والقلوب ثابتة في مكانها لاتتحرك، فضعفت الصورة الحركية هنا، عما هي في البيان القرآني، الذي جعل القلوب هي المتحركة بخفقانها واضطرابها حال شدة الفزع والخوف، وهذا أنسب؛ لأنها مكان المشاعر والخوف، وهو ما يجده الإنسان على وجه الحقيقة عند شدة الفزع من اضطراب قلبه، وشدة خفقانه، وانتفاخه؛ حتى يعسر عليه التنفس والكلام، وهو ما لايكون في الصورة المقلوبة لدى الشاعر من انكماش الحناجر حتى تمس القلوب، وهي صورة تناسب حال شدة الظمأ منها إلى تصوير الفزع!