مدار الساعة - لم ينشأ مصطلح “السنة النبوية” المطهرة ولم يُعرف باستفاضة كاملة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن كان شائعا في اللغة، متداولاً في كثير من سور القرآن بمعانٍ مختلفة، ووارداً في بعض الأحاديث بلفظ سنتي ونحوها. وهو في ذلك ينسجم مع المعنى اللّغوي لكلمة سنة والتي تعني – في الغالب – الطريقة والعادة. فإذا قيل “سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم” فإن ذلك يعني طريقته وعادته صلى الله عليه وسلم فيما يقول وفيما يفعل، وفيما يُقرّ وفيما يستنكر، وفيما يأمر به، وفيما يدعو إليه أو ينهى عنه.
ولقد تنوعت اصطلاحات علماء المسلمين كثيرا فيما يتعلق بمصطلح السنة بعد عصر التدوين. فالفقهاء يطلقون كلمة سنة ويريدون بها السنن والنوافل، كما في الصلاة والصيام والصدقة، وهو كل ما حث الرسول صلى الله عليه وسلم على القيام به ويُثاب فاعله ولا يُعاقب تاركه. مثال ذلك سنة الفجر والظهر … وصيام الاثنين والخميس. وأما الأصوليون فيطلقون كلمة سنة ويريدون بها الدليل الشرعي الثاني. فأدلة الأحكام الشرعية المتفق عليها عندهم هي كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. وأما المحدِّثون فالسنة عندهم هي المرويات التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سواء اشتملت على أقوالٍ أو أفعالٍ أو تقريرات (والتقرير كما هو معروف يعني أن يَحدث شيءٌ أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقره ولا يستنكره).
فالنبوة هي المُذكِّرةُ لآدم بمهمته في هذه الأرض، والمُعلِّمةُ له كيف يعمرها وكيف يحقق معاني الخلافة ومهامها. والنبوة قضية غيبية من الصعب أن نُخضعها لمقاييس المنطق الإنساني والعقل الإنساني، وإن كانت مفهومة في إطار الرؤية الإسلامية خاصة والرؤية الدينية بشكل عام. فالنبي هو إنسان أوحي إليه بشرعٍ ولم يؤمر بتبليغه، وإنما أوحي إليه بما يمكن أن يجعله نموذجاً لغيره من الناس في أقواله وأفعاله وتفاصيل حياته المختلفة. حتى إذا أُمر النبي بتبليغ ما أوحي به إليه صار رسولا.
والوحي لغةً الكلام الخفي، وهو أيضا عملية غيبية. وقد حصر الباري جل شأنه عملية الاتصال بينه وبين البشر بطرق ثلاث كما في الآية الكريمة {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلاّ وحياً أو من وراء حجاب أو يرسل رسولاً فيوحي بإذنه ما يشاء} (الشورى: 51). وعند الحديث عن مصطلح “الوحي” فإن من الضروري أن نفهم أن هناك شيئاً فوق عقولنا في عملية الاتصال بحيث لا يمكن تحويلها إلى عملية طبيعية أو الادعاءُ بأنها ممكنة التكرار، أو إعطاؤها أي صفة كسبيَّة إنسانية. فهذا البعد الغيبي في النبوة والرسالة يجب أن يُعرض على حقيقته وعلى طبيعته الغيبية هذه. ولابد من التسليم – ابتداءً – بأن ما يحيط بنا في هذا الكون حاصلٌ وفق سنن وقواعد يتفاعل فيها الغيب والإنسان والخلق الطبيعي، ومن يتجاهل هذا فإنه سيشعر – لا محالة – بالعجز عن فهم كثير مما يجري حوله.
ومن هنا فإنه لا يصح أن نستبدل مثلاً كلمة النبي أو الرسول بالعبقري أو نحوه مما هو مشترَكٌ إنساني، وكذلك مفهوم “الوحي” بأي تصور آخر. مثل حديث البعض عن قضايا الكمبيوتر والترميز، أو الادعاء بأن قضية الوحي من المحتمل أن تكون عبارة عن لغةٍ رمزيةٍ رياضيةٍ… الخ. فمن الواضح أن مثل هذه التأويلات غير واردة، وتعطي التفسير الخاطئ لكثير من الظواهر. فعلى الإنسان إذا أن يعرف حدوده النسبيَّة التي يدور فيها، فهو مخلوق نسبيّ، يولد بتاريخ معين ويموت بتاريخ معين ولا يستطيع أن يحيط بكل شيء علما. وكل ما يستطيع الوصول إليه فهو محدود بحدود طاقته وإمكاناته وظروفه البشرية في فترة زمنية محددة، ووفقا لإطارٍ ذهني معين.
والخلاصة أننا معشر المسلمين نؤمنُ بإلهٍ متجاوزٍ متعالٍ منفصلٍ وقريب في الوقت ذاته، متّصفٍ بجميع صفات الكمال، منزّهٍ عن سائر صفات النقصان، لا يمكن للإنسان أن يتصل به كما يريد لتلقّي المعرفة، بل أن عملية الاتصال هذه غير ممكنة إلا بالطرق التي حددها الخالق جل شأنه وفي مقدمتها “الوحي”.
أما النوع الأول منها فإننا نجد فيه أن الرسل جاءوا إلى أقوام بعينهم محددين في قرية أو قوم، وفي إطار زمني محدد كذلك، يدعون أولئك الأقوام أو أهل القرى إلى عبادة الله الواحد الأحد، و لا يحاول هؤلاء الرسل الاتصال بالأقوام الآخرين. فبُعث موسى عليه السلام إلى بني إسرائيل وحدهم، وبُعث نوح إلى قومه وحدهم، وكذلك هود بُعث إلى عاد فقط. ولم تخلُ أمةٌ من نبي {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} (الإسراء: 15)، {وإن من أمة إلاّ خلا فيها نذير} (فاطر: 24).
وأما النوع الثاني فهو رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – وهي الوحيدة الشاملة والكاملة والعامة والعالمية والخاتمة. وتتصف رسالة محمد – صلى الله عليه وسلم – بخصائص معينة تجعلها مختلفة عن الرسالات التي سبقتها في عدد من القضايا:
أولا: أن هذه الرسالة صدّقت الرسالات التي سبقتها. وعملية “التصديق” هنا تتمثل في استرجاع كل ما ورد من مُشترَكٍ بين الرسل في تلك الرسالات بغرض نقدها وبيان الزائف والمزيد والمحرّف فيها، وتصحيح الصحيح وبيان الخطأ. ولذلك امتلأ القرآن الكريم بذكر الأنبياء السابقين وأممهم وأحوالهم. ويترافق مع صفة “التصديق” صفة “الهيمنة”، فهذه الرسالة مهيمنة على جميع الرسالات السابقة كما ورد ذلك في صريح القرآن {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه} (المائدة 48) {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً} (الأعراف 158). وهكذا فهي رسالة عالمية عامة شاملة دائمة إلى يوم القيامة.
ثانيا: أن هذه الرسالة تتضمن شريعةً مخففةً وميسرة. وهذا يتضح من قول الله جلّ شأنه في سورة الأعراف {واختار موسى قومه سبعين رجلا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين. واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون. الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون. قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلاّ هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون} (الأعراف: 155-158).
وتحتاج هذه الآيات منا إلى تدبر عميق. فالسياق القرآني يذكر أن موسى عليه السلام سأل الله أن: {اكتب لنا في هذه الدنيا حسنة}، والمناسب لمجمل السياق ولمقتضى الحال، أن تكون الحسنة الدنيوية التي سألها موسى عليه السلام لقومه شاملة لتخفيف أحكام الشريعة الموسوية التي كان منطلق بعض أحكامها ظلم الذين هادوا وتحريفهم {فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} (النساء:160) فهي أحكام فيها إصرٌ وأغلال وشدة تناسب غلاظ الأكباد، قساة القلوب الذين قست قلوبهم {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} (البقرة:74).
وجواب الخالق جل شأنه لعبده وكليمه يثني بشمول “الحسنة” في هذه الدنيا تخفيف الأحكام، وتيسير الشريعة، ورفع الإصر والأغلال ليحيى قومه الحياة الطيبة ويتمكنوا من طاعة الله تعالى1. ولكن الباري تبارك وتعالى أنبأ موسى بأن هذه الأمور مُدّخرةٌ لتكون خصائصَ للشريعة الشاملة العامة الكاملة القائمة على لطفه وعدله تعالى. وهو سبحانه وتعالى لا يورد بعد ذلك إجابةً مباشرة لهذا الطلب، لكنه يوحي بتجاوزه له بشكل غير مباشر في بقية السياق، وذلك عبر نقلةٍ بيانيةٍ تربطُ استحقاق قومٍ آخرين لما طلبه موسى عليه السلام، وهؤلاء الآخرون لهم صفاتهم المعيَّنة، ومنها أنهم {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي}، وهو الرسول الذي {يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}. فالسياق هنا يوحي بنقلةٍ أساسية توضح خصائص الرسالة الخاتمة، فبعدما كانت الشرائع من قبلُ شرائعَ عُسرٍ وأغلال وتشديد، تأتي الشريعة القرآنية – شريعة محمد – صلى الله عليه وسلم – باليسر والتخفيف والرحمة. ليكون ختام السياق – بعد ذلك – توجيه النداء العالمي الذي يوضح أن هذه الرسالة ليست للعرب وحدهم، ولا للمسلمين وحدهم، ولا للمعاصرين وحدهم، وإنما هي رسالة للناس جميعا في كل زمان ومكان، وأنها وحدها القادرة على أن تكون شريعة العالمين.
يلازم القرآنَ ملازمةً تامّةً – كمصدرٍ مُبيّنٍ للرسالة الخاتمة – السُنّةُ النبويةُ المطهرة. وملازمتها للقرآن هي أوضح ما تكون في قوله تعالى: {الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم. فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه أولئك هم المفلحون} (الأعراف 157). فهنا ينسب الله التحليل والتحريم ووضع الإصر والأغلال إلى رسوله صلى الله عليه وسلم. وكأنه – جلّ شأنه – جمع بين القرآن الكريم الذي يحمله الرسول صلى الله عليه وسلم وليس له فيه إلاّ البلاغ، وبين السنة التي سوف يعبّر عنها باعتبارها بياناً وتطبيقاً وتنزيلاً وربطاً لقيم القرآن الكريم بالواقع الذي عاش فيه الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – ليتضح ببيان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – منهج التطبيق والتأسي وفهم القرآن وتغيير الواقع والمجتمع به.
هذه هي الصورة الحقيقية للمصادر التي تشكل المرجعية النهائية للبشرية إلى يوم الدين، بدون الحاجة إلى أية مرجعية إضافية أخرى. وهذا ما عبر عنه الله جلّ شأنه بقوله: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (المائدة:3)، وعبر عنه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: “تركتُ فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسّكتم بهما: كتاب الله وسنتي”. وأيضاً “تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاّ هالك”.
ففي إطار الفهم السابق يأتي الفهم البديهي بأن البشرية يجب أن تصبح في حالٍ أفضل، بعد أن امتلكت الكتاب المعصوم، الذي حُفظت أحرفه كأنها مواقع النجوم، وامتلكت الهدي النبوي الذي يمثل المنهاج التطبيقي لقيم الكتاب المعصوم في الواقع البشري. ويصبح كل المطلوب هو أن يرجع الإنسان بشكل متواصل إلى هذين المصدرين، بعقل متفتح قادر على أن يقرأ الوحي، وقادر على أن يقرأ الكون معه. والتاريخ يشهد كيف كانت البشرية تتدرج في صعد الكمال بقدر تطبيق تلك القاعدة. من هنا فإن أي خلل يحدث في مرحلة ما من التاريخ يجب أن يُفسّر على أنه مسؤولية القراءة الخاطئة، ومسؤولية العقل البشري وتصوره، وليس بحال مسؤولية النص بشكل مباشر.
ونحن حتى نفهم أي نص، لا بد لنا من معرفة النموذج (paradigm) الكامن في ذهن قائل النص (ونقصد بالنموذج مجمل المنطلقات النظرية الأساسية التي يصدر عنها تصور قائل النص وطروحاته، والتي يتحدد من خلالها تماما المعنى الذي أراده). وهذا يتحقق – في حالة كون القائل بشراً – بأن نسأله مباشرةً عن قصده وعن المعنى الذي يرمي إليه. فإذا لم نتمكن من ذلك، فإننا نقوم بأنفسنا برحلةٍ في ذهن قائل النص من خلال مجمل كتاباته وطروحاته لنعرف النموذج الذي يتحدث من خلاله.
إلا أن مشكلة أخرى تبرز هنا، تلك هي مشكلة قارئ النص. فالقارئ نفسه عنده نموذج في القراءة (أي تصورٌ عام معين للكون والحياة والإنسان)، وهو يتأثر في قراءته تلك بكل ما يحيط به في هذه الحياة. هذا في حالة النص البشري، أما في حالة النص الإلهي فإننا لا نستطيع أن نتعامل معه إلاّ في حدود كونه قولاً إلهياً، أي أننا لا نستطيع تطبيق القاعدة الأولى إلا في حدود استقراء المقاصد والأهداف والغايات التي وضعها سبحانه في مواضع متعددة من كتابه الكريم. ثم تبقى – بعد ذلك – مشكلة القارئ والنموذج الذي يقرأ من خلاله، لمعرفة ماهية المؤثرات التي تتدخل في عملية الفهم أو عدمه.
وواضح هنا أن ظروف الحياة التي تحيط بنا، وكذلك اللغة والعادات والمستوى الثقافي وغيرها من الأمور، كلها من العوامل المؤثرة في عملية الفهم. ونتيجةً لهذه المؤثرات، يحدث أحيانا فصامٌ بين النص وبين مُتلقّيه، كأنْ يتساءلَ إذا ما كان أمرٌ ما متعلقا به، أو ينطبق على حالته. حتى إذا ما أحس بصعوبة الفهم، بدأ يحاول التعامل مع النص منطلقا من ضغوط ظروفه المعينة، كأن يؤوّل المعنى، أو يلغي منه، أو يضيف إليه، بشكل يساعده على أن يتكيف مع النص بشكل من الأشكال. وقد حدث هذا مع الأمم التي سبقتنا وفرقت كتبها، لأنها في إطار رؤيتها الجامدة للنص، وفهمها الحرفي له، وتعاملها التقليدي معه، شعرت أنها لا تستطيع الالتزام به وتطبيقه، فانحرفت عنه وحرّفته. وقد أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الأمة قد تبتلى بما ابتليت به الأمم السابقة: “لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع، قيل يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال فمن؟” وفي لفظ: “حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه”1.
وفيما يتعلق بالنص القرآني فإن الملاحظ أن هذا الخطاب الذي أعجز العرب وتحداهم، بل وأعجز العالم كله أن يأتوا بمثله: {قل لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا} (الإسراء: 88)، أن هذا الخطاب هو نفسه الذي وصفه الله سبحانه بأنه متيسرٌ وسهل الفهم: {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} (القمر:17). ومفرق الطريق بين إعجاز القرآن وتيسُّرِ فهمه إنما هو القراءة والتلاوة بمعناها الواسع، والتدبر والتفكر المتواصل فيه. لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحث المسلمين دوما على مزيد من التلاوة والتدبر، واستعمال كل قوى الإدراك وكل طاقات الوعي الإنساني لمحاولة فهم هذا النص، في حدود الطاقة وفي حدود الإمكانيات التي كانت سائدة في بيئتهم.
إن من الضرورة بمكان الانتباه دوما إلى أن هذا النص الذي حمل قابلية استيعاب تراث النبوات كلها، والذي يحمل – في الوقت نفسه – استيعاب كل المستجدات إلى يوم الدين، ليس نصا عاديا نستطيع أن نتعامل معه بأي مستوى كان من التعامل. كما أن من الصعوبة أن يتمكن فردٌ أو جيل معين من استيعاب كامل الطاقة المعرفية والحضارية الكامنة في القرآن، والقابلة للعطاء المتجدد في كل مرحلة من مراحل الزمان. تماماً كما يذهب الإنسان إلى البحر ليأخذ حاجته منه فيتوضأ ويشرب ويغتسل ويفعل ما يريد دون أن يتمكن من استيعابه كله. بينما يمكن أن يأتي بعده من يستعمله بشكل آخر ولحاجاتٍ أخرى، ويبقى البحر بحرا مستعصيا على الاستيعاب. وهكذا، فالسبيل الوحيد للاستيعاب الذي لا ينتهي من هذا النص هو التلاوة والتدبر والتفكر الذي لا يعرف الحدود.
ونظرا لأهمية مثل ذلك الأمر في حياة الجيل الأول من حمَلةِ هذه الرسالة، لم يكن صلى الله عليه وسلم يسمح للصحابة بأن ينشغلوا بشيء آخر، فكان لهم باستمرار ذلك الدوي المعهود بالقرآن. لأن القرآن كان يجب أن يكون هو مرجعهم الأول والأخير – وربما يفسر لنا ذلك غضب الرسول صلى الله عليه وسلم عندما رأى عمر يقرأ صفحات من التوراة في الحادثة المعروفة – كما كان من مهام الرسول الأساسية في وجوده معهم كما يُخبر القرآن نفسُه أن {يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة} (البقرة:151).
وقد بلغ اهتمام الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر ومتابعته له إلى درجة أنه لم يرضَ حتى لأحاديثه أن تشغلهم عن القرآن، ولذلك كان ينهاهم عن كتابة سنته. إلا أنه – لما أُسيء هذا الفهم عند البعض وظنوا أنه إنما نهاهم عن الكتابة لأنه صلى الله عليه وسلم يقول في الرضى وفي الغضب وأنه قد يقول شيئا غير مضبوط – قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: “اكتب فوا لله ما خرج منه، وأشار إلى فِيه صلى الله عليه وسلم، إلاّ حق”1. وذلك ليصحح هذا المفهوم على المستوى البعيد.
وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى والصحابة رضوان الله عليهم على هذا الفهم. حتى أن سيدنا عمر حينما تطلعت نفسه إلى أن يبحث عن معنى كلمة “الأب”، وهو التبن، سأل، فقال له أحد الهذليين: يا أمير المؤمنين هذه لغتنا، الأب هو التبن، فلام عمر نفسه وقال: وما ضرك يا بن الخطاب أن تجهل كلمة في كتاب الله ؟ في إشارةٍ معبرةٍ إلى طبيعة العلاقة المطلوبة مع القرآن، بحيث يكون الاهتمام بالناحية العملية فيه، أكثر من الإغراق في عملية التفسير أو في عملية التأويل. حتى أننا لو نظرنا في كتب الحديث كالبخاري ومسلم لوجدنا الأحاديث التي وردت في تفسير القرآن الكريم قلية ومحدودة جدا. (المقصود هنا التفسير بمعناه الاصطلاحي، أما التفسير كبيان وتطبيق وعمل فقد كان صلى الله عليه وسلم خلقه القرآن، كما ذكرت السيدة عائشة رضي الله عنها). وكذلك نجد كيف روت أم المؤمنين عائشة أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يفسر من القرآن إلا آيات علَّمهُن إياه جبريل.. وبعد وفاة الرسول نجد أن كبار الصحابة استمروا على منهج التربية ذاك، فكان القرآن الكريم محور تفكيرهم واهتمامهم، حتى أننا نجد أن أهمَّ الصحابة كانوا أقل الناس رواية، فما رواه أبو هريرة هو أضعاف ما رواه أبو بكر أو عمر رضي الله عنهم جميعا.
والأمر الذي ينبغي بيانه هو أن السنة المطهرة لم تُحفظ بكامل حروفها كالقرآن الكريم من ِقبَل الله جلّ شأنه. ويبدو أنه لم يكن هناك، وهذا مجرد تفسير قد أكون مخطئا فيه، حرصٌ شديد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على رواية كل شيء بمنتهى الدقة (وإلا فما معنى أن يختلف الفقهاء في الأذان والإقامة واللذان كانا يحصلان خمس مرات في اليوم؟). ربما كان ذلك لانشغالهم بالقرآن، وربما كان لما روي من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وربما كان لأسباب أخرى. مع هذا كان هناك رواة وروايات وأحاديث كثيرة، إلى درجة خاف معها عمر بن عبد العزيز من كثرة اختلاف الناس، فأمر بجمع السنة لتكون مرجعا للناس بجوار القرآن.
ولقد برز الاهتمام بالسنة، بل والتركيز الشديد عليها مع انتهاء الخلافة الراشدة، وبروز عصر الفرقة وما صاحبه من مشكلات معروفة. وشيئا فشيئا ظهرت قضية الفِرَق فأدت إلى نوع من الإقبال على السنة بغرض الاستنصار بها، ثم نشأت مشكلة وضع الأحاديث التي حاولت بعض الفرق بواسطتها العمل على تعزيز مقولاتها ودعاواها. وقد شغل هذا الأمرُ كثيرا من العلماء، فبدأت عملية تدوين المسانيد والمجاميع والصحاح. وبذل مجموعة من علماء المسلمين جهداً جباراً ومشكوراً لم يعرف التاريخ له مثيلا، لمجابهة التحدي المتمثل في إيجاد منهجية تعمل على حفظ السنن وتنقيتها.
وقد قامت هذه المنهجية على دعامتين: منهج الرواية والإسناد والتصحيح، ومنهج نقد وغربلة المتون. أما الأول فهو يدرس رجال كل حديث دراسة ممعنة تثبت أن هؤلاء صادقين. فالحديث هو ما رواه العدل التام الضبط المتصل السند عن مثله إلى منتهاه. وأما الثاني فهو يدرس المتن الذي يجب أن يكون “من غير شذوذ ولا علة قادحة”. وقد ذكر الدكتور السباعي رحمه الله في كتابه “السنة النبوية ومكانتها في التشريع” ستة عشر شرطا ليكون الحديث صحيحا. ولكن المؤسف أن هذه المنهجية لم توضع متكاملة ولم تَعمل أو تُستعمل كمنهجيةٍ واحدة ذات جانبين، وإنما شَغلت المنهجية الأولى المحدثين، فعُنوا بالأسانيد أكثر مما عنوا بنقد المتون، فيما انشغل الفقهاء – في مقابل ذلك – بالمتون أكثر من الأسانيد. لذلك قد نجد عند الفقهاء بعض الأحاديث التي يوجد خلل في أسانيدها، في الوقت الذي نجد فيه المحدثين يصححون أحاديث في متونها شئ من الشذوذ أو العلة القادحة.
إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الجهد الذي بذله علماؤنا لتنقية السنة، كما أنه لا يبرر بأي حال مقولات البعض من أنه يكفينا القرآن الكريم ويمكننا الاستغناء عن السنة النبوية، فهذا كلام في منتهى الخطورة. ذلك أن القرآن الكريم لا يمكن أن ينفصل عن حامله صلى الله عليه وسلم ولا عن سنته، وإذا كان القرآن الكريم هو المصدر المُنشِئ للأحكام، فإن السنة النبوية هي المصدر المُبيِّن لها، ولا يمكن تجاوزها وتجاهلها بحال من الأحوال. وإنما يصبح الواجب متمثلا في حُسن التعامل مع ذلك الرصيد بحكمةٍ وعلم ومنهجية ودراية، بحيث يمكن تجاوز الإشكاليات التي لا تظهر في قضية التعامل مع السنة، إلا لقلة العلم والفقه في هذا المجال التخصصي الخطير، أو لشدة الحماسة والعاطفة السطحية المفتقدة أيضا إلى ضوابط الفقه والعلم الأصيل.
والحقيقة التي ينبغي التأكيد عليها في هذا المجال هي أن من غير الممكن إخضاع هذا الدين الكامل لرغباتنا أو شهواتنا، بحيث يكون ما نرغبه هو المرجع في هذا السبيل. وإنما لابد لنا من معرفةٍ تجعلنا قادرين على التعامل المنهجي مع الحديث النبوي. فنعرف على سبيل المثال أن هذه السنن أنواعٌ، وأن بعضها صحيحٌ، وبعضها ملزم، وبعضها موضوع، وبعضها مرفوض. ولا بد لنا كذلك من أن نعرف المناسبات والظروف التي قيلت فيها هذه الأحاديث فنعرف مقاصدها وغاياتها. ولنضرب بعض الأمثلة على ذلك.
المثال الأول في قوله صلى الله عليه وسلم: “أنا بريء من كل مسلم مع مشرك لا تراءى ناراهما”. إن المعنى المباشر للحديث يوحي باختصاصه بقضية المفاصلة في السكنى والإقامة مع المشركين، وفعلا فقد استدلَّ بهذا الحديث كثير من الفقهاء على حرمة السكنى في بلاد المشركين إلا لسفارة أو تجارة ولمدة لا تتجاوز أربعة أيام. والمشكلة – من جهة – أن الحديث بهذا الفهم يناقض ما أمر به الرسول المسلمين الأوائل من الهجرة إلى بلاد الحبشة والإقامة فيها زمنا، وما أمر به مصعبا من الإقامة في المدينة قبل الهجرة بغرض الدعوة والتعليم ومعظم أهلها مشركون، ويناقض أيضا فعل كثير من التابعين على مر التاريخ.
كما أنه – من جهة أخرى – يتناقض مع منطق الواقع ومتغيراته، حيث تفرضُ الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المعاصرة هجرة مجموعات بشرية كبرى من مكان إلى آخر، طلبا للأمن والحرية أو بحثا عن لقمة العيش. فضلا عن صعوبة الادعاء الحاسم اليوم بوجود (دار الإسلام) في شكلها العرفي الذي عرفه العلماء، بحيث يتوجب الإقامة فيها، لما يتوافر فيها من العدل والحرية، ومن الأمن على الدين والنفس والمال والعرض، ومن إقامة حكم الله…
والحال مع مثل هذه الأحاديث عند البعض أن يتسرع فيرد الحديث بمجمله أو يلغي العمل به بسبب تلك الملابسات، فيكون مكذبا لحديثٍ صحيح أو مقبول لا يجوز تكذيبه. الأمر الذي قد يُشعل غيرة البعض الآخر على سنة رسول الله، فتبدأ المعارك الكلامية، ويكثر اللغط واللجاج، وما ذلك إلا لقلة البضاعة التي تمكن من العودة إلى تحليل الحديث وظروفه وملابساته، بحيث يُفهم الفهم الواعي، ويوضع في مكانه الصحيح.
إن عودة تحليليةً إلى أصل الحديث تُظهر أن المقصود به لا علاقة له بموضوع الإقامة في بلاد المشركين من قريب أو بعيد. فالحديث قاله صلى الله عليه وسلم لبعض الصحابة الذين جاؤوا يطلبون الدية منه لأقرباءَ مسلمين لهم كانوا قد قتلوا بأيدي المسلمين في غزوة بني المصطلق. فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك قاصداً أنه بريء من الدم والدية لهؤلاء المسلمين الذين لم يعلم بوجودهم بين أظهر المشركين أصلا،
فالبراءة في الحديث براءة من الدية والدم، والحالة تتعلق بأفراد من المسلمين الذين يقيمون مع قوم هم في حالة حرب معلنة مع جماعة المسلمين، ولو علم الرسول بوجودهم لربما تغير وجه المعركة ( فربما كان من الممكن أن يستفيد منهم في عملٍ من الداخل). وواضح بعد هذا البيان أن من التعسف أخذ هذا الحديث، واستخراج مثل تلك (الفتوى) منه بغرض تعميمها في مجال الإقامة في غير بلاد المسلمين. بينما كان الأَولى – على الأقل – تخصيصُهُ بالحالات المشابهة لتلك الحالة، أو اعتباره واحدا من منظومةٍ متكاملة من الأحاديث التي تتعرض لهذا الشأن، والتي يمكن من تحليلها جملة، استخراج ملامح الهدي النبوي في هذا الشأن الحساس.
مثال آخر هو أحاديث الربا. فقد ورد ما يقارب من ثلاثة وسبعين حديثا عن الربا، من أشهرها حديث عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:”الذهب بالذهب يداً بيد، هاءً بهاء، سواءً بسواء، والفضة بالفضة يداً بيد، هاء بهاء، سواء بسواء…الخ”.
هذا الحديث في ظاهره يدعو إلى التساؤل: هل من المعقول أن يشتري الإنسان فضة بفضة أو شعيراً بشعير بحيث يكونا متماثلين تماما بالكمية والنوعية ؟ ما الفائدة من ذلك ؟ وأي معنى في أن يحمل الإنسان مثلا كيسا من الأرز من نوع معين إلى إنسان آخر ليقايضه بكيس مقابلٍ يحوي الكمية نفسها والنوعية نفسها من الأرز ؟؟.. هذا ونحن نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحكم الناس، ولا يمكن أن يأمر بشيء إلا وفيه الحكمة كلها. فكيف يأمر بشيء لا فائدة للناس من عمله ؟
إن التساؤل لا يزول إلا بجمع الأحاديث الواردة في هذا الباب بغية تحليلها وفهمها مجتمعة. وبهذه الممارسة نجد في هذه الأحاديث قوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين جاءه بتمر جنيد (أي تمر منقى): “هذا التمر جيد من أين جئت به؟ فقال معاذ: يا رسول الله بعت صاعين من الجمع بصاع من هذا التمر لطعامك. فقال عليه الصلاة والسلام: أوه، عين الربا، فلا تفعل، ولكن بع الجمع بالدراهم واشتر بالدراهم جنيدا”.
إن تدبر هذا الحديث يزيل الإشكالية المذكورة أعلاه نهائيا، وذلك حين نستشفُّ منه أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعمل على تغيير النظام الاقتصادي في المدينة من نظام يقوم على المقايضة إلى آخر يقوم على الوسيط النقدي، لأنه لا يمكن أن تُبنى حضارة ويقوم عمران، بنظام المقايضة. ولنا أن نتصور حياة يقوم فيها الناس ليل نهار بحمل أكياس من الخضار والفواكه لاستبدالها بالملابس والأغراض، أو دفعها مقابل الخدمات وغير ذلك من الأمور..
وحيث أن الرسول عليه الصلاة والسلام ليس من الثوريين الذين يغيرون مسيرة الحياة بالقرارات الثورية المباشرة، أو بالمراسيم الجمهورية والملكية، فقد ارتأى التدرج مع الناس بما علمه الله من الحكمة. فلم يمنع أن يتبادل الناس بالمقايضة إذا كانت السلع مختلفة (أرزاً بحنطة، أو سمناً بشعير)، وكذلك لم يمنع من المقايضة لنفس السلع ولكن بشرط أن يكون هناك تماثل كامل في هذا المجال، بحيث يصبح ربا الفضل غير معقول، ويُعرضُ الناس عنه إلى البديل النقدي مع الأيام.
وهكذا نجد أنه إذا نظر الإنسان إلى حديث الذهب بالذهب وحده، لربما قال: إن من المستحيل أن يقول الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحديث، لأنه لا فائدة البتة من هذه المقايضة، فيكون قد كذّبَ حديثاً صحيحاً أو مقبولا. ولكن عندما يأخذ مجمل الأحاديث التي جاءت في شأن الربا ويدرسها متكاملة، يدرك حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم في محاولته لنقل الناس تدريجيا إلى نظام اقتصادي نقدي.
إن مثل هذه الأمثلة توضح كيف يمكن قراءة الحديث النبوي الشريف قراءة واعية تساهم في تحقيق خلافة الإنسان على هذه الأرض وإعمارها، دون تعسف في اشتقاق الأحكام والفتاوى منها من جهة، ودون استعجال في ردها أو تكذيبها من جهة أخرى. إلا أن المؤسف أن كثيرا من الناس غير المؤهلين يتعاملون مع السنة بهذا الشكل الجزئي، الأمر الذي يجعل تكذيب الأحاديث أسهل طريق لديهم، لأنهم لا يدركون كيف قيلت ولم قيلت. الأمر الذي يظهر مدى الحاجة الماسة لدينا إلى كثير من الوعي والحذر والدراية في تعاملنا مع السنة الشريفة.
وفي الوقت نفسه، فإن من أشد الأمور لزوما وضرورة في منهج التعامل مع السنة أن نربطها بالقرآن، وإلاّ وقعنا في إشكالية أخرى، ألا وهي نسخ آيات القرآن الواضحة الصريحة البينة ببعض الأحاديث.
فنحن نعرف مثلا أن الله جلّ شأنه اعتبر حرية الاختيار هي الأمانة: {إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا} (الأحزاب: 72). وقال في حرية الاختيار: {لا إكراه في الدين} (البقرة:256).
وهناك ما يقارب من مئتي آية في القرآن تؤكد هذا المعنى. قال تعالى: {ألم تر أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض والشمسُ والقمرُ والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب ومن يهن الله فما له من مكرم إن الله يفعل ما يشاء} (الحج 18). فبعض الناس يسجد وبعضهم لا يسجد، بخلاف بقية المخلوقات التي ليس لها خيار إلاّ أن تسجد. والمشكلة تظهر حين يرى البعض أن كل هذه الآيات منسوخة بحديث رووه عن نافع – وهو غلام ابن عمر رضي الله عنه – قال فيه: “إنما كان هذا والإسلام ضعيف، ولكن حينما بسط الإسلام جرانه فلا يقبل من الناس إلا الإسلام أو السيف” !!.. ومثل ذلك ما يراه ابن حزم (وهو من عباقرة هذه الأمة) من أن {لا إكراه في الدين} (البقرة: 256) منسوخةٌ بقوله صلى الله عليه وسلم: “من بدّل دينه فاقتلوه”.
والواضح أن هذا الحديث قيل في المجتمع الإسلامي الناشئ، الذي حاول بعض اليهود والنصارى أن يخترقوه من داخله ثم يخرجوا عليه في عملية حربية نفسية بالغة الإيذاء والخطورة، وتتصف بالغدر والخيانة. وقد قال الله جل شأنه عن هؤلاء: {وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أُنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون} (آل عمران:72). ولذلك كان الحكم صارما ضد من يحاول أن يضرب هذا الدين ويقوضه من داخله. فعندما توجد مثل هذه الحالة يطبق مثل هذا الحكم. مع أن من المهم أن نعرف أن المقصود من العقوبة ليس إكراههم على الرجوع إلى الدين وإنما إكراههم على الرجوع إلى الجماعة. كما تجب الإشارة إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف المنافقين بأسمائهم، بل كان المسلمون جميعا يعرفون اسم زعيمهم ابن سلول، لكنه عليه الصلاة والسلام لم يفعل لهم شيئا، ولم يقتلهم أو يُقم عليهم حد الردة، وفي هذا ما فيه من المعاني المتعلقة بهذا الموضوع. وكذلك فإن الله جلّ شأنه رتب عقوبة أخروية على الردة ولم يرتب عقوبة دنيوية فقال: {ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} (البقرة: 217) وقال: {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه} (المائدة: 54).
ونحن إذا انتقدنا ذلك الاتجاه الخطير الأول إلى إنكار السنة أو إلغائها، فإننا نرى أن الأخطر من ذلك هو نفي قيم القرآن الكبرى الحاكمة، ونسخ آياته الصريحة الواضحة بهذا الشكل المتسرع. والحل في الأمرين هو إيجاد منهجية علمية لفهم الحديث النبوي، تتجاوز النظر إلى كل حديث بمفرده وكأنه كيان مستقل منفصل تُستخرج منه الأحكام، لأن تعدد الأحاديث في الموضوع الواحد يمكن أن يؤدي إلى تعدد الدلالات، التي يمكن أن يكون بعضها متضاربا، الأمر الذي سيدفعنا بعد ذلك إلى الادعاء بأن البعض ناسخ والآخر منسوخ، أو أن البعض متقدم والآخر متأخر.. وهكذا.. بحيث نقوم بعملية تقطيع ظالمة للسنة النبوية، إما أن تكون نتيجتها تشويه معالم الهدي النبوي الأصيلة الشاملة، أو إضاعة أجزاء واسعة ومقدرة منه.
إن من المعروف على سبيل المثال أن الإمام الطبري يصف الإمام أحمد بأنه محدث وليس فقيها. ففي بعض المسائل يجد الباحث أن للإمام أحمد أربعة وعشرين قولا، كما في كتاب “الإنصاف في مسائل الخلاف”. وعلى القارئ أن يختار من بين هذه الأقوال. ولقد قيل للإمام: “يا أبا عبد الله، كيف هذا؟ فقال: ما دام الحديث قد صح عندي فأقول بمقتضاه لا يهمني بعد ذلك شيء”. فهذا منهج الإمام أحمد، يتبعه حتى لو تعارضت دلالات الأحاديث، وتعددت – أو تضاربت – الفتاوى إلى درجة كبيرة، لأنه يرى في ذلك أمانة وخروجا من الشبهة. وبدلا من هذا المنهج الذي اجتهد به الإمام أحمد، والذي لا يمكن أن نلزم عموم الأمة به، فإن من الممكن الانتقال إلى منهج يقوم على جمع الأحاديث المتعلقة بالموضوع الواحد، بحيث يتضح الرابط المنهجي بينها، تمهيدا لترتيبها زمنيا ودراسة أسانيدها للتأكد من مدى صحتها، ثم دراسة متونها وتحليلها للتأكد من عدم وجود شذوذ أو علل قادحة فيها، وذلك بغية الاستنباط منها في نهاية هذه العملية البحثية المنهجية.
وبغير هذه المنهجية، سيظل التعامل مع السنة النبوية الشريفة قاصرا في الاتجاهين، عن الإحاطة بالمنهج النبوي في الحياة والحركة والعمل والدعوة، وسنرى شرائح من الناس تنكر الحديث النبوي، أو تختار منه ما يروق، وتدع ما لا يروق. وليس الأمرُ أمرَ تنازلٍ لمثل هؤلاء كما قد يظن بعض السذج في هذه الدعوة إلى المنهاجية، وإنما هو إشفاقٌ على البشرية من ضياع هذا الكنز النبوي، أو تشويهه وتغيير ملامحه الأصيلة، فلا يعودَ بعد ذلك تلك المحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتي أعلمنا أنه لا يزيغ عنها إلا هالك.