مدار الساعة - يعتبر “قسطنطين كفافيس” أعظم شاعر يوناني معاصر. وهو يعبر في شعره عن التلاقي المشترك لعالمين: اليونان الكلاسيكية، والشرق الأوسط القديم، وتأسيس العالم الهيلليني، والأدب السكندري الذي كان مهادًا خصبًا لكل من الأرثوذكسية والإسلام، والسبل التي تدفع بشعوب المنطقة – على اختلاف أساليبها – نحو الكمال الإنساني.
الشاعر” كوستيس بتروس فوتياديس كفافيس” الذي اشتهر باسم كفافيس ولد بأحد منازل شارع شريف بالإسكندرية في التاسع والعشرين من شهر إبريل عام 1863.
وكان والده “بتروس”، و”خاريكليا” أو “هاركليا” المنحدران من عائلة “فوتياديس” قد هاجرا من إسطنبول إلى الإسكندرية. ويرجّح بعض الباحثين أن أسرة الشاعر كفافيس منحدرة من أصل أرميني، غير أن كفافيس نفسه لم يشر إلى هذا من قريب أو من بعيد كما أنه يفتخر دومًا بأنه يوناني من بيزنطة، وجدير بالذكر أن كلمة “كفافي” تعود إلى أصل تركي ومعناها “الإسكافي”(صانع الأحذية).
وكان شاعرنا في السابعة من عمره عندما مات أبوه في العاشر من أغسطس عام 1870 عن خمسة وخمسين عامًا ودفن بمدافن الأسرة في الشاطبي.. لم تكن صلة الابن بأبيه كبيرة، ولم يكن الأب يكترث بصغيره كثيرًا، فقد ولد له بعد ثمانية من الأولاد شبع من تدليلهم، وكان الأب في سنواته الأخيرة غارقًا في مشاكله منصرفًا إلى تدبير أمور معاشه، فبعد أن كان قد جنى ثروة كبيرة من أعماله التجارية تدهورت أحواله المالية في أخريات أيامه فمات تحت وطأة الحسرة، ولم يترك لأسرته ثروة تذكر.
رغم ذلك كان كل من الأب والأم زوجين متحابين متفاهمين، انحدرت الأم من أسرة يونانية ثرية، وكان الأب إلى جانب ثقافته بارعًا في شئون التجارة والمال، نزح إلى الإسكندرية عام 1845 في الثلاثين من عمره، واستقر بها يمارس تجارة المنسوجات والأقمشة التي كان يستوردها من أخيه بإنجلترا، ثم اشتغل أيضا بتجارة الحبوب والمحاصيل، وأنشأ كثيرًا من محالج القطن.. وامتلأت حياته بالأعمال والمشروعات والصفقات، وحقق من كل ذلك ثروة كبيرة، وفي عام 1848 عاد إلى أسرته بالأستانة وتزوج.
وكان والد كفافيس -كما يقال- أول من أدخل صناعة حلج القطن في مصر، وكان له مصنعان في “كفر الزيات” – إحدى مدن مصر – ومتاجر في “منيا البصل”، ومكتب حاصلات زراعية في “زيزينيا” بالإسكندرية ومكتب آخر في “الموسكي” بالقاهرة.
وكان صديقًا للخديوي “إسماعيل” الذي أهداه “الوسام المجيدي” في افتتاح قناة السويس، كما كان الخديوي “سعيد” أيضا صديقًا لهذه العائلة اليونانية. ويقال إنه كان ينفق أربعة آلاف جنيه في العام، وذلك في القرن 19.
الأم كانت ابنة لتاجر ماس تزوجت الأب وهي في سن الرابعة عشرة، وقد ظل كفافيس يحتفظ بذكرى أمه على الدوام في أعماقه، كانت امرأة جميلة أنيقة، وكان كفافيس يهيم بها حبًا، ولم تستطع امرأة أو فتاة أن تصل لمكانة أمه في نظره من ناحية الجمال وغيرها، وكانت الأم تبادله الحب، وإلى جانب هذا كانت امرأة ولودًا، أنجبت تسعة أبناء – في أقل من خمسة عشر عامًا.
وكانت أمه في السادسة والثلاثين حين مات زوجها عام 1870 ولم تنجب الأم غير ابنة واحدة هي أخته “هيلليني” التي لم تعش طويلاً، وجاء هو في أعقابها، ومن ثم كان بالنسبة لأمه آخر العنقود وكما يقولون لم ينعم طفل بحنان أمه قدر ما نعم “كفافيس” الذي شب خجولاً منطويًا لا يعتمد على نفسه في شيء، تسارع أمه إلى تلبية طلباته، وتحشد الخدم لخدمته، وقد تعلم القراءة والكتابة في المنزل، وكانت له مربية ومدرس خاصان يقيمان في بيتهم بشارع “شريف”
ولم يحصل شاعرنا على شهادة جامعية، ولم ينتظم في تعليمه لكنه استكمله بنفسه فيما بعد من خلال قراءاته الخاصة، وكان “كفافيس” يجيد إلى جانب لغته اليونانية، الإنجليزية، والفرنسية والإيطالية، واهتم في دراساته بالتاريخ اليوناني والكلاسيكات والأدب الأوروبي بوجه عام.
أما عن أسفاره فقد أمضى بعض سنوات طفولته في إنجلترا، كذلك أمضى شاعرنا عامين من سنوات شبابه في “إستانبول” وزار “فرنسا”، لكنه لم يزر “أثنيا” إلا لفترة زمنية قصيرة بين عامي 1900 و1901، وكان ذلك للمرة الأولى في حياته، أي عندما كان في حوالي السابعة والثلاثين من عمره.
وقد عاين “كفافيس” في صباه غزو الإنجليز الغادر للإسكندرية وقذفها بالقنابل عام 1882. فكان على خلاف كثير من أجانب ذلك العهد تألم لضرب مدينته العريقة، ولم تطاوعه نفسه -عندما شب عن الطوق- على الهجرة من الإسكندرية الحبيبة رغم الدعوات التي وُجِّهت إليه للإقامة في “أثنيا”.
واضطر للسفر مع أمه وأسرته إلى الأستانة بعد الاعتداء على الإسكندرية، وأقاموا عند جده، ثم عاد عام 1885. وكانت آخر أسفاره عام 1932، عندما مرض بسرطان في الحنجرة، وسافر إلى اليونان للعلاج ثم أصر على العودة إلى الإسكندرية، ولكنه كان قد فقد القدرة على الكلام.
هذا نص ما كتبه مدير الري بالإسكندرية في رسالة إلى رئيسه يطلب تعيين “كفافيس” موظفًا بالمكتب بدلاً من “سليم أفندي إبراهيم” الذي أحيل إلى المعاش، وبهذا استطاع شاعرنا الحصول على وظيفة متواضعة في وزارة الري بمكتبها بالإسكندرية في عام 1889، وتدرَّج في سلم الوظيفة، فأصبح في إبريل 1892 كاتبًا بمرتب قدره سبعة جنيهات ثم بلغ مرتبه أربعة وعشرين جنيهًا في يناير عام 1913.
ويقول “إبراهيم النجار” – زميل “كفافيس” في العمل: “لقد كنت أنا وزميلي نختلس النظر من ثقب باب مكتب “كفافيس” لنرى ماذا يفعل عندما يغلق المكتب على نفسه، وكنا نندهش كثيرًا عندما نجده يرفع ذراعيه إلى أعلى وكأنه يقوم بالتمثيل، وكنا نلاحظ أن وجهه يكتسي بتعبيرات مثيرة، وكان يبدو لنا في هذه الحالة ونأنهكأنه مجنون يكلم نفسه، ثم بعد ذلك نلاحظ أنه كان يكتب شيئًا على الورق، ولم نكن نعرف مطلقًا أنه شاعر وأنه سوف يصبح مشهورًا جدًا؛ ولذلك بدت لنا تصرفاته عجيبة ومثيرة للدهشة”.
وسواء عرف “كفافيس” بهذا أم لم يعرف، فإنه كان يقول: “ما أكثر ما يهبط علىّ خاطر جميل أو صورة نادرة، أو أبيات من الشعر جاهزة ومفاجئة، ولكنني أضطر إلى ترك هذا كله؛ لأن عملي في وظيفتي لا يحتمل التأجيل، ثم أعود إلى البيت وأستريح قليلاً وأحاول أن أتذكر هذه الخواطر الجميلة فإذا بها قد ضاعت وتبددت، ومن حقها أن تفعل ذلك، فالفن ليس خادمًا لك تطرده عندما يأتيك وتكون مشغولاً عنه، ثم يستجيب لدعوتك ويعود إليك عندما تريد ذلك وتطلبه”.
وكان أول ناقد يقدمه إلى القراء في أثينا هو عضو الأكاديمية “جريجوريوس كسينوبولوس”، وذلك في مجلة “باناثينا” في 40 نوفمبر 1903.
ولقد ألمح إلى عبقرية “كفافيس” الناقد الإنجليزي (فورستر EM. FORESTER) الذي كتب عنه عام 1919: “إن “كفافيس” بالغ القوة وبالغ العظمة، وهو واحد من البارزين في الحركة الفكرية والثقافية”.
وفي الواقع أن “كفافيس” استمد موضوعات قصائده من التاريخ بعصوره المختلفة وبخاصة من تاريخ الإسكندرية في العصر الهيللينستي وتاريخ العصور البيزنطية وتاريخ العصر الكلاسي القديم لحضارة اليونان، كما أنه استمد كثيرًا من موضوعات قصائد من الحياة المعاصرة ومن وقائع حياته الشخصية.
وإلى جانب ما نشره “كفافيس” في المجلات والدوريات وما أصدره بنفسه في كتيب عام 1904 يحتوي على 14 قصيدة أعاد نشرها من جديد عام 1910 مع سبع قصائد أخرى، كان شاعرنا ينشر عادة قصائده متفرقة بعد أن يتم نسخها على وريقات توزع باليد على مريديه ومحبيه. ومن أجل هذا السبب بالتحديد يصعب أن نجد قصائده محفوظة بذات العنوان أو الصورة من التأليف إذا كان يقوم بتعديلها أو تقييمها كل فترة، أو يقوم بطبعها ثم نشرها مرة أخرى.
وكانت أول طبعة كاملة من قصائده هي الطبعة التي أصدرتها مجلة (الفن السكندري Alexandrine Techne ) عام 1935، وهي مجلة بدأت في الانتشار بفضل توجيهاته منذ عام 1926، وهو العام الذي حصل فيه، كفافيس على وسام “النخلة الذهبية” من حكومة “البنغال”.
ويتألف ديوان كفافيس – إذا استثنينا الأشعار التي ألفها في مطلع شبابه- من حوالي 154 قصيدة، بالإضافة إلى عدد ما يقرب من عشرين قصيدة أخرى لم تكن منسوبة إليه، وأعيد نشرها بعد وفاته على يد عدد من النقاد والباحثين. وفي عام 1922 وتحديدًا في شهر إبريل استقال من عمله وخلد إلى العزلة، فقد ماتت أمه عام 1899، وفارق من بعدها إخوته وأحباءه وأحس بالوحشة، لكنه ظل ملتصقًا بمدينته لا يغادرها رغم الدعوات الكثيرة التي وجهت إليه من الأوساط الأدبية في أثينا، وعلى الأخص من الشاعرين الكبيرين “أنلجو صيقبليانوس” (1884 – 1951) و”لامبروس بوفيراس” (1879 – 1935).
وبعد أن أمضى كفافيس حوالي ثلاثين عامًا في الإسكندرية سافر إلى أثينا لأنه أصيب بمرض السرطان في الحنجرة وخضع للعلاج فترة ثم رجع إلى الإسكندرية، لكن حالته ازدادت سوءًا فدخل مستشفى الجالية اليونانية بالإسكندرية. وفي التاسع والعشرين من إبريل ذات يوم ميلاده من عام 1933 فاضت روحه إلى بارئها، عن عمر يناهز سبعة وسبعين عامًا.
الشاعر “كفافيس” الذي لم يكن يحب ثرثرة الناس ولا العقول الجوفاء لهذا يعتكف في صومعته خافتة الضوء إذا زاره ضيف يحبه أضاء له شمعة ثانية، فإذا ضاق بالضيف أطفأ الشمعة إيذانًا بانفضاض الجلسة. وهكذا انطفأت شمعة الجسد النحيل إيذانًا بالرحيل، لكن شمعة الروح بقيت.