حتى في مماته ظل السلطان قابوس رحمه الله جسر وصل، يجمع الناس ويدفع الخلاف عنهم، ويحمي منجزهم، فكيف إذا كان هو صانع هذا المنجز، أعني به نهضة عُمان التي أخرج بها السلطان قابوس بلاده من مرحلة إلى أخرى، اتصفت بالجمع بين الأصالة والمعاصرة، ووضعتها في مصف الدول الأكثر تحضراً في المنطقة، لذلك لم يكن من الممكن أن يترك الراحل هذا الإنجاز للصدف، فعلاوة على أن النظام الأساسي للحكم يحدد آلية أنتقال السلطة، فقد ترك السلطان مزيداً من الضمانات لاستمرار استقراره وطنه،عندما كتب وصية أشار فيها إلى من يأتمنه على عُمان من بعده، واثقاً من أن أبناء عًمان سيرضون بمن يختاره لهم لأنهم ما اعتادوا منه إلا الخير لهم، وما عرفوا عنه إلا الحكمة التي ترشد إلى الرأي الصائب، وهكذا ظل قابوس جسر الوصل الذي أوصل بلاده إلى بر الأمان حتى وهو في قبره.
القدرة على الوصل وجمع الأضداد أهم ما اتصف به السلطان قابوس عليه رحمة الله، لذلك لا يمكننا التردد بوصفه بسلطان الوصل، لقدرته المتميزة في هذا المجال، وهي قدرة كاشفة عن صفات كثيرة اجتمعت فيه، أولها الهدوء والسكينة اللتان اتصف بهما، فولدتا فيه الحكمة والحنكة وأساسهما الاتزان والتفكير الهادىء الذي يقود إلى القرار السليم في القضية محل النظر، وقبل ذلك القدرة على موازنة الأمور لاختيار أفضلها، ترجمه لصفتين امتاز بهما السلطان الراحل هما الوسطية والاعتدال وقبلهما التواضع.
عند التواضع لابد من وقفة عند سلوك آخر اتصف به السلطان الراحل، فقد حمته هذه الصفة من خداع بريق الإعلام فجنبته خوض المعارك الإعلامية مع أي طرف، والأهم أنها جنبته خديعة الصورة الإعلامية التي ينفق عليها البعض أموالاً طائلة, ليكتشف فيما بعد أن الإعلام خدعة وأضله عن نفسه وعن محيطه، وهو ما نجى منه السلطان الراحل الذي اختار أن يبني صورته لدى شعبه عبر الإنجاز الذي حققه لهذا الشعب الذي كان محل اهتمامه الأول، لذلك كان حريصاً على صورته عند أبناء وطنه أكثر بكثير من صورته عند الآخرين، وهي صورة بناها بالإنجاز ورسخها بالتواصل مع كل أبناء عُمان، فارتبط اسمه بكل سنتمر من أرض عُمان التي كان يجوبها من أقصاها إلى أقصاها بانياً للنهضة .
ومثلما ابتعد السلطان قابوس عن المعارك الإعلامية، فقد ابتعد أيضاً عن كل أنواع المعارك، ليس ضعفاً فعندما كانت سيادة عُمان تُمس كان يُري عدوها نيوب الضرغام وفيما عدا ذلك كان يحب أن يقف على مسافة واحدة من الجميع ليتمكن في اللحظة المناسبة من جمع المتخصمين ليحل، بينهما الوئام محل الخصام، وكثيرة هي المشاكل المستعصية التي حلت على طاولة السلطان قابوس، فحُقنت دماء، وحُفظت حياة الآف البشر، فقد كان الإنسان هو محور اهتمام الراحل العظيم ومن أجله كان يعمل ويتواصل.