وعلى ما سبق، فللتراث دلالته الواسعة؛ التي تقع على كافة ما تركه لنا السابقون من: علوم ومعارف ومبانٍ وعمائر وفنون .. وغير ذلك، غير أن الكلمة صارت تستخدم اليوم ، للإشارة إلى الموروث الفكري الذي تراكم بفعل جهود الأجيال السابقة عبر قرون الحضارة الإسلامية، التي هي واحدة من أطول الحضارات عمرًا في تاريخ الإنسانية، من حيث تواصلها -بلا انقطاع- خلال قرون طويلة من الزمان.
ولم يكن السابقون يطلقون على موروث سابقيهم كلمة تراث فقد كانوا ينظرون إلى هذا الموروث باعتباره ممتدا فيهم، وهو الامتداد الجاري عبر اللغة، والمفاهيم، والتصورات العامة. ومن هنا، توالت حلقات تاريخنا الثقافي والعلمي لزمن طويل .. حتى جاءت الحملة الفرنسية، ومن بعدها احتلال الأوروبيين لأرجاء العالم العربي والإسلامى، فكانت عملية الانقطاع عن التواصل -على مستوى الوعي العام – بحيث صارت أجيالنا الحالية، بفعل عمليات التغريب الدائمة، تنظر إلى الآثار الباقية عن الأجيال الخالية، باعتبارها أمرًا مستقلاً عنا، يكاد يبدو وكأنه يخص غيرنا! ولقد استخدم البيروني تعبير الآثار الباقية عن القرون الخالية كعنوان لأحد أهم كتبه.. لكن البيروني لم يقصد بذلك ما تركه سابقوه من أهل الحضارة العربية الإسلامية، وإنما كان يستعرض تراث فارس والهند والأمم الأخرى السابقة على -والمختلفة عن – حضارته العربية الإسلامية.. ولم يخطر ببال البيروني أننا سنعتبره يومًا، نحن المسلمين المنتمين لنفس حضاراته: تراثا ! فتدبَّر ذلك.
التراث، إذن في مفهومه المعاصر، ودلالته المشهورة، ولفظه الذي اشتهر على الألسنة.. يُقصد به: ما كتبه الأوائل والأواخر من العرب والمسلمين. مع اختلاف في تحديد الأواخر هل القدماء على الإطلاق، أو هم السابقون على مجيء الحملة الفرنسية، أو هم أهل القرن الماضي؟ وتتعدد الإجابات بحسب تصور أصحاب الإجابة للحدود الزمنية التي يقف عندها التراث.. أما فيما يخصُّنى، ولأننى أقول بالامتداد التراثي على صعيد الواقع الفعلي، عبر اللغة، والدين والهموم العامة، والتصورات الكلية؛ حتى لو حدث الانقطاع على مستوى الوعي عند الكثيرين من معاصرينا .. فأنني أعتبر الأواخر هم كل من سبقونا، كما اعتبر كل ما كتبه السابقون تراثاً، حتى لو كان الواحد منهم قد رحل منذ سنوات قليلة .. فآثار طه حسين – أعنى كتاباته – تعد تراثاً، مثلما تعد قصائد شعراء الجاهلية تراثاً . وعلى ذلك ، يكون الشعر الجاهلي تراثًا، سواء قصدنا بذلك الشعراء الجاهليين، أم قصدنا كتاب طه حسين الشهير.
وحِفْظ التراث، ووصوله إلينا، كان بفعل الحرص على التدوين والكتابة، وقد ظلت الكتابة لزمن طويل، من عمل اليد، أعنى : ظلت كذلك قبل ظهور الطباعة والوسائل الحديثة والوسائط المعاصرة (كالأسطوانات الملَيْزَرة) ولذلك فإن أغلب نصوص التراث القديم، عبارة عن مخطوطات كُتبت باليد، سواء كان كاتبها هو المؤلِّف نفسه، أم أحد تلامذته، أو ناسخٌ محترف عاصر المؤلف، أو عاش بعده .. وها هنا نقطة يجدر تبيانها، وهي أن معظم معاصرينا يعتقدون أن الحملة الفرنسية، حينما جاءت ومعها المطبعة غيَّرت وجه ثقافتنا، ونقلتنا إلى الحداثة الأوروبية بنقلة واحدة مفاجئة (ولذلك يحرص البعض على احتفال بيوم مجيء الحملة !)
وهذا الاعتقاد السابق، محض وهَمْ وتزييف، فما كانت الحملة إلا محاولة احتلال عسكري يلزمه استكشاف حال وتاريخ الجماعة والأرض المراد احتلالها، ولذا اصطحب نابليون العلماء الذين دوَّنوا وصف مصر باللغة الفرنسية، خدمة للأغراض الفرنسية .. ويلزمه أيضا، تسيير شئون الحملة وطَبْع الأوامر العسكرية والمنشورات وكل ما من شأنه تسهيل مهمة الاحتلال، ولذا سرق الفرنسيون مطبعة ميدتشى من إيطاليا، ثم اصطحبها نابليون معه حينما عاد إلى فرنسا بعد أشهر معدودة، وهى العودة التي كانت مقدمة لفشل الحملة في جملتها.
لقد أحدثت الحملة الفرنسية صدمة الحداثة حينما كشفت أوروبا، بعد الحملات الصليبية بزمن طويل، عن أنيابها التي كان أهلونا قد نسوها مع الزمن .. لكن الحملة لم تقم أبدا بعملية نقل الحداثة أو تغيير وجه الثقافة، كما يزعم الزاعمون، ويتوهَّم الواهمون.
والأثرُ الملموس لعملية الطباعة، هو ما حدث بعد إنشاء مطابع بولاق الرائدة، على يد محمد على سنة 1821 ميلادية، إذ اجتهد المصريون بعدها في طباعة أمهات وعيون تراثهم العربي الإسلامي .. ومع ذلك، فقد استمرت عملية نسخ المخطوطات بالطريقة التقليدية، قبل وبعد مطبعة بولاق. وإذا قارنّا عدد المخطوطات التي نسخت باليد، في مصر، منذ مطلع القرن التاسع عشر حتى الربع الأول من القرن العشرين، مع عدد الكتب التي طبعت في بولاق وغيرها من المطابع المصرية في نفس الفترة، سنجد المخطوطات هي الأكثر عدداً .. وهذا دليل آخر على الامتداد والتواصل التراثي.
وقد يبالغ البعض في اعتقاده بأن المطبعة أحدثت طفرة في عملية انتشار الكتب.. وفى الحقيقة لقد كانت المطبعة نقلة نوعية خطيرة، خاصةً بعدما وصلت إليه اليوم من تقنيات متطورة وإمكانيات هائلة. ومع ذلك، فالمطبعة التي وفدت من أوروبا، لم تفد على أرض يُباب خالية من أدوات الانتشار الثقافي! فخلال قرون طويلة من تاريخنا العربي الإسلامي، كانت عملية النسخ اليدوي والوراقة، بمثابة مؤسسة هائلة لا يمكن الاستهانة بما تقدمه، ويكفى أن نذكر مثالاً واحداً مشهوراً، هو أن القصر الكبير الذي بناه الفاطميون بمصر، كانت به أربعون خزانة كتب، كانت إحداها تحتوى -ضمن ما تحتويه- على أكثر من عشرين نسخةٌ كاملة من تاريخ الطبري وهو كتاب يقع في خمسة مجلدات ضخمة .. ولنا أن نتخيل اتساع عملية الوراقة والنسخ، كي تفي بعدد كهذا من كتاب واحد، في مكتبة واحدة، في بلد واحد، في هذه الفترة المبكرة من تاريخنا الثقافي ! فما بالك بتلك الطاقة الإنتاجية التي وفَّت ببقية الكتب، لبقية المكتبات العامة والخاصة، في بقية البلدان .. وفى بقية الفترات الطوال من ثقافتنا الممتدة. ولولا هذه العملية الهائلة، التي تمخضت عنها ملايين المخطوطات، لما كان من الممكن أن تكون لهذه الأمة ذاكرة.
للمخطوطات، إذن، فضل كبير في حفظ ذاكرة هذه الأمة، وتدوين عوالم حضارتها .. ولها أيضا السبق .. ولو لم تكن المخطوطات، لما وجدت المطابع ما تخرجه من أمهات التراث، ولما وعت هذه الأمة بذاتها.
وحتى يومنا هذا ، فالمنشور من النصوص العربية في الفنون والعلوم والمعارف المختلفة، لا يمثل غير جزء ضئيل من مجموع التراث العربي المخطوط، هذا التراث الموزَّع على ما لا حصر له، من المكتبات الخطية العتيقة في العالم، يهدده الفقد وخطر الزوال وأفعال الزمان، ويحوطه الجهل التام بمحتواه!.
اسلام اون لاين