مدار الساعة - كما سبق ووعدت القراء بإتمام هذا الموضوع العلمي ،الدقيق والهام جدا ،فها أنا أواصل عرض ما جادت به قريحة العالم عبد الوهاب الشعراني من فقه نقي وراقي وأخلاقي بالدرجة الأولى ،غايته لم شمل الأمة وربط حبال التواصل بين أفرادها ومذاهبها وطوائفها !.
فالشعراني يصر على أن مسألتين رئيسيتين ينبغي أخذهما في الاعتبار لتحقيق هذا الهدف وهما كما سبق وبينا : “التأويل والنسخ التاريخي” وذلك لهدف رائع وتعليمي تربوي بالدرجة الأولى، حيث يقول: “فلهذين المعنيين اللذين لم أصل إليهما وهما ترك التأويل والنسخ بالتاريخ جعلت باب الفهم مفتوحا لكل سامع وناظر من كمّل العارفين والخلق أجمعين فيفهم كل واحد على قدر ما وقر بحسب جلاء مرآة قلبه وصداها ويدين الله تعالى بما فهم”.
فالمعرفة الدينية ليست معرفة أرستقراطية متعالية وإنما هي رحمة للعالمين.كما أنها ليست محتكرة من طرف فئة دون أخرى وإنما هي تؤخذ بحسب مستوى الفهم والاستطاعة في التمثل أولا ثم التطبيق ثانيا.و:”إنما الأعمال بالنيات”. في حين فإن تفاوت الفهم لا يلغي الأعلى منه ما دونه فيجهله ويبدعه وربما يكفره ،ولو طبق هذا الحكم بسطحيته لبدع كل الفقهاء وكفر كل العلماء وفسق كل المجتهدين لأنهم متفاوتون في الفهم .فإذا كان هذا الموقف غير وارد في حق رجال العلم فما بالك حينما يسقط على العامة الذي لا حول لهم ولا قوة في سعة الفهم.
لكن الشعراني هنا يوكل مستوى الفهم ليس إلى الأدوات المعرفية والقواعد الأصولية المعقدة والمتفرعة ولكن إلى مستوى القلوب المستعدة والصافية أو الصدئة. فالعلم الديني علم قلوب قبل الكتب والرسوم ،حتى إن تدوين العلوم في الأمة لم يتم إلا بعد قرنين من الهجرة ،فهل يحكم على من مضى بأنهم كانوا جهالا ولم يكن لهم فهم للعلوم الشرعية كالذي عند فقهاء عصرنا وتعرجاتهم اللفظية والمذهبية؟
وعن هذا يعير وينبه الشعراني كل من ينكر منهجا ليس في حوزته تقليدا أو استجهادا لا اجتهادا. وأعتذر عن المصطلح للضرورة حينما لا يفهم البعض مقتضى الخطاب وحاله. فيقول:
إذا ما قال للخفاش قوم بنور
الشمس يبصر ما يكون
فليس مصـــ ــدقا ولكن
يكذب أو يقول بهم جنون
وإن تعجب فممن يسألوه
أنور الشمس تقبله الجفون
وأعجب منهم من قلدوه
وقالوا بالظلام ترى العيون
المشكلة هنا عندنا هي في تقليد القديد ورفض التجديد ،مع زعم بعضهم أن هذا الرفض هو التجديد بعينه ،وتلكم هي الرحى التي تدور بنا جميعا فتصيبنا بالغثيان وفقدان الثقة في العلم والعلماء معا.
ثانيا : الرخصة والعزيمة والميزان الذهبي في التوظيف والتوصيف
وفي هذا الصدد ودرء للتمادي في الرفض المخل بوحدة الصف واستقرار الأحكام.يقول:”ولنشرع في ذكر الميزان التي وعدنا بذكرها فنقول وبالله التوفيق:(بيان)ميزان نفيسة يشرف الإنسان بها على تقرير جميع أدلة الشريعة المطهرة جاءت عامة وليس مذهب أولى بها من مذهب ! فمن ادعى تخصيصها بما ذهب إليه إمامه من المقلدين فقد أتى بابا من الكبائر ،وخطأ الأئمة أو ضعف أدلتهم بالرد تارة وبالقول بالنسخ تارة وبجرح الرواة لها تارة نسأل الله العافية.ولا تخرج يا أخي من هذه الورطة إلا أن تقول بصحة كل حديث أو أثر استدل به إمام من الأئمة لمذهبه كائنا ذلك الإمام من كان،فإنه لولا أنه صح عنده ما استدل به وكفانا صحة لذلك الحديث أو الأثر استدلال مجتهد به ولا يقدح فيه تجريح غيره من المحدثين والمجتهدين من طريق روايتهم ،فإذا تقرر عندك أدلة الشريعة كلها على هذا الطريق ثم خفت تعارضها فأرجعها كلها إلى مرتبتين :”عزيمة ورخصة” يرتفع التعارض والخلاف عندك من الشريعة إن شاء الله تعالى ،لأن الشريعة لا تخرج عن هاتين المرتبتين أبدا .لأن الحديث إما أن يكون الحكم المحتوى عليه مائلا إلى العزيمة والاحتياط وإما أن يكون مائلا إلى الرخصة والتخفيف عن ضعفاء الأمة، ولكل من المرتبتين رجال في حال مباشرة الأعمال …فلا يكلف الضعيف بالصعود لمرتبة الأقوياء ولا يؤمر القوي بالنزول لمرتبة الضعفاء سواء كان ذلك مندوبا أو واجبا …”
الشعراني هنا قد كان سلفيا أكثر من السلفيين وأصوليا أوعى من الأصوليين وصوفيا تربويا وذوقيا على أعلى مقاماتهم ورقيهم إذ:”حسنات الأبرار سيئات المقربين” في حين سيضع حدا لتطاول أهل الحديث على أهل الأصول وتضييق مجالاتهم وذلك حينما أشار إلى أن التجريح لا يقدح في قيمة المجتهد إذا استدل بحديث.وفي نفس الوقت حفظ للمحدثين مكانتهم واعتبارهم عند توظيف ما يروونه من أحاديث تختلف درجات صحتها طالما أن هناك مجتهدين يقبلونها أو يرفضونها بحسب المواضيع والتنزيلات لا رفضا قاطعا وطرحا في المهملات !.وفي هذا يستدل بموقف الإمام أحمد بن حنبل الذي كان يقول :”ضعيف الحديث أحب إلي من رأي الرجال”.
جوهر الفكرة والموقف هنا هو أن المجتهد ،أي مجتهد معتبر عند الأمة ،لابد وأن يكون قد اعتمد في اجتهاده على مرجع شرعي أصولي إما من الكتاب أو من السنة.وأن رفض الأحاديث لدى بعض المجرحين لا يعني أن الحديث غير صحيح إطلاقا .في حين فإن الأحاديث المصححة لا ينبغي التعامل معها على أنها تفيد اليقين المطلق وخاصة أحاديث الآحاد .
ومع هذا ينبغي الأخذ بها بمنطق الرجحان نظرا لصرامة المنهج الذي خرجت به.في حين توجد أحاديث لم تخرج بنفس الطريقة فكانت في حكم الضعيف ولربما المرفوض، ولكنها من حيث معناها وموافقتها لأصول الشريعة قد تكون صحيحة رأسا، فينبغي إذن العمل بها إذا اقتضى الحال ولا بديل عنها.
وعلى هذا المنهج سيكون ترتيب الشعراني للأحاديث في كتاب “كشف الغمة” وكأنه يعرض الأحاديث في السوق العامة لضرورة المعاش والتكسب ،بحيث قد يمر الغني فيقتني البضائع والألبسة الغالية ولوازمه بحسب طاقته الشرائية ،ويمر الفقير فيقتني هو أيضا ما يلزمه ويقيم صلبه ويستجيب لضرورياته ،فيأكل الجميع ويلبس الجميع ويسكن الجميع ويتواصل ويتعاون الجميع ، يقول الله تعالى :” إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ” ،وهذا هو أعظم مقصد من مقاصد الشريعة وحكمتها العليا، كما أنه مزيل للحرج ودافع للمشقة وجالب للتيسير. ولو كانت الشريعة جاءت على مرتبة واحدة :”إما تخفيف فقط أو تشديد فقط لكانت عذابا في قسم التشديد ولم يظهر للدين شعار في قسم التخفيف والتسهيل”على حد تعبير الشعراني.
وبصدد هذا يحذر الفقهاء ذوي هذه النزعات السلبية من أن يصبحوا مستهدفين بالحديث النبوي الشريف: “اللهم من شق على أمتي فاشقق اللهم عليه “ولا أحد فيما يرى”أشق على الأمة من فقيه يحجر عليهم ويحكم ببطلان عبادتهم ومعاملاتهم وتطليق نسائهم وسفك دمائهم ويحكم بأمور ولدها بعقله ورأيه ولم يأت بها صريحا كتاب ولا سنة حتى تضيق الدنيا على العامي منهم”.
وكأنه هنا يعتبر أن رأس المشقة في الأمة هم مثل هؤلاء الإسقاطيين والمتشددين من أشباه الفقهاء،والذين يحتكرون بدورهم معنى الحديث السابق ويسقطونه على أولياء الأمور ،من السياسيين والحكام فقط، وكأنهم بمنأى عن هذا الوصف، وذلك خدمة لأهداف لا علاقة لها بالتشريع ولا بالفقه ولا بالأصول.
ثم يختم ميزانه بالتركيز على قاعدة فقهية جد مهمة وهي قول المجتهد :”إذا صح الحديث فهو مذهبي”ومن ثم فعلى كل من سلم من التعصب في الدين”فإحسان الظن بجميع الرواة لأدلة المذاهب واجب على كل من استبرأ لدينه وعرضه إذ بذلك يسلم المسلون من لسانه ويرضى عنه الله ورسوله ويرضى عنه جميع المجتهدين…”
” وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ” و “العلماء ورثة الأنبياء”.