إذن فتاريخ العلم هو تاريخ الحضارة الإنسانية يسجل حركتها ويتتبع تطوراتها ويعرض مراحل نموها وازدهارها وفترات ضعفها وانبعاثها من جديد.
وهذا هو تاريخ الورق وتطوره شاهد على العصور وكل الحضارات وموصل لكل نتائج العلم والعلماء بما فيها هذا الاكتشاف نفسه.
من المعروف أنه مع دخول الورق إلى العالم الإسلامي أخذ يظهر فن الكتابة على مستوى كبير، ولم يكف عن التطوير حتى القرن التاسع عشر بينما كان استعمال الطباعة قد انتشر منذ مدة طويلة.
قبل بداية الإسلام كان القرآن الكريم يُكتب بأجزاء صغيرة على مواد مختلفة وغريبة مثل: أكتاف الإبل واللحاف (وهى أحجار كلسية بيضاء عريضة ورقيقة) في العسب (عسب النخيل) وفي الرق، حتى جمع سوره في أول الأمر، الخليفة أبو بكر الصديق رضي الله عنه (المُتَوَفَّى سنة 634م) معتمدًا في ذلك على أوراق البردي. وأدرك الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه (المتوفى سنة 656م) أهمية تدوين القرآن بالنسبة لحفظه وضبطه؛ فجمعه وحسب سوره في مصحف وأمر بتحريره على الرق.
أما الرق فقد عرفه العرب قبل الإسلام، فكانوا يعالجون الجلود بالكلس الفاقع اللون مستعملين أيضًا بعض الأجزاء المقومة الأخرى لتلوينه ومنحه مرونة تمكن من استعماله في الكتابة. وقد كتبت بعض أجزاء القرآن الكريم على الرق.
وبرزت بجلاء إمكانيات استغلال الرق في عملية التجليد أو التسفير، فقد كان الجلد ينقش ويدمغ ويوشم بخيوط الذهب التي كانت تتزاوج في تناسق مع ثنياته وحدوده. كما كانت تضاف إليه زخارف هندسية ونباتية مذهبة أو ملونة لتوحي للقارئ بالبهاء والروعة.
ويعود الفضل في اختراع مادة الورق إلى الصينيين الذين أنتجوه ابتداء من القرن الأول بعد المسيح، وذلك انطلاقًا من سيقان نبات الخيزران (البامبو) المجوفة والخرق البالية أو شباك الصيد. كانت هذه المواد تدق، بعد أن تغسل وتفقد ألوانها، في مطاحن خاصة حتى تتحول إلى عجينة طرية فتضاف إليها كمية من الماء حتى تصبح شبيهة بسائل الصابون، وبعد أن يصفَّى الخليط تؤخذ الألياف المتماسكة المتبقية بعناية لتنشر فوق لوح مسطح لتجففه حرارة الشمس. وبعد التجفيف يمكن صقل فرخ الورق المحصل عليه بعد ذلك بواسطة خليط من النشا والدقيق ويجفف من جديد. وهكذا يحصل على ورق قابل للاستعمال.
وعندما فتح المسلمون سمرقند سنة 751م وطردوا منها الجيوش الصينية أسروا عددًا كبيرًا من الصينيين كان من بينهم صنَّاع الورق الذين أطلعوا العرب على أسرار هذه الصناعة، فأدخلها العباسيون إلى بغداد. ومن هناك انتقلت إلى الجزيرة العربية ثم إلى اليمن وسوريا ومصر والمغرب العربي والأندلس التي انتشرت عبرها في فرنسا وصقلية وإيطاليا انطلاقًا من القرن الثاني عشر الميلادي.
أما في المغرب فإن الإقبال على الورق كان كبيرًا جدًّا لدرجة أن بعض الوثائق المخطوطة تبرز أن مدينة فاس وحدها كانت تضم في عهد السلطان المرابطي يوسف بن تاشفين مائة وأربعة معامل. أما في عهد السلطان الموحدي يعقوب المنصور وابنه محمد الناصر (القرن الثاني عشر الميلادي) فقد كانت هذه المدينة تحوى ما يناهز أربعمائة معمل لإنتاج الورق. وقد كانت الأندلس المسلمة أيام الموحدين أهم طريق عبرت منه صناعة الورق إلى أوروبا كما تشهد بذلك نصوص الجغرافي المغربي الشريف الإدريسي.
وقد عرفت أنواع مختلفة من الورق حسب طبيعة نسيجها وأليافها وألوانها (الأحمر، الأزرق، الأخضر، الأصفر..)، وكانت الأوراق من اللون الواحد تُعَدُّ لاحتواء النصوص المفضلة لدى الكاتب أو للمحافظة على الصفحة المزخرفة ولمنحها بهاء ورونقًا خاصَّيْن.
وظلت صناعة الورق في تطور وأخذت أهمية كبرى بخاصة بعد اخترع جوتن برج لأول ماكينة طباعة، وبدأ معها الاهتمام بأنواع الأوراق المختلفة، وبدأت التكنولوجيا الحديثة تقوم بدورها في تلك الصناعة، إلى أن أصبح الأمر الآن أكبر بكثير من مجرد أوراق للطباعة وأخرى للتغليف، وإنما أصبحت هناك أشكال وأنواع كلٌّ يؤدي دورا مختلفا على حسب المصدر الأول لاستخراجه.
فنهاك الورق المأخوذ أساسًا من الأشجار الإبرية، والتي توجد عادة في المناطق الشمالية الباردة من أوروبا، وهناك أوراق تشبع بألياف السليلوز لكي تأخذ ملمس القماش ورونقه، أو لأنها تعطي مواصفات جيدة عند الطبع عليها، ويكون مصدرها الأساسي القطن وأشجار الأرز ومصاص القصب.
ولم يقتصر الأمر على طرق وأنواع الورق، وإنما أصبحت هناك مواصفات أخرى أكثر دقة وتعقيدًا؛ حيث نجد أجهزة خاصة لقياس لمعان سطح الورق، وجهاز لقياس قوة ومتانة شد الورق الذي يستخدم في عمليات التغليف وأيضًا نسبة الحموضة والقلوية.
من الكتابة على أكتاف الإبل إلى استخدام الرق إلى اكتشاف صناعة الورق، ثم التطورات الهائلة التي حدثت فيها، وفي استخدامنا للورق الآن إلى ما لم يكتشف بعد في تلك الصناعة… رحلة تاريخ وتطور عبر العصور كانت وما زالت.