أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات وفيات جامعات برلمانيات أحزاب وظائف للأردنيين رياضة مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس تبليغات قضائية جاهات واعراس الموقف شهادة مناسبات مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

العقلانية: جدل الفلسفة والدين

مدار الساعة,أخبار ثقافية
مدار الساعة ـ
حجم الخط

هذا الجدل يحتاج لكسر حلقته المفرغة، ومفهوم العقلانية المختطف من فريق والمضطهد من فريق آخر يحتاج لاستنقاذ، ولن يمكننا أن نقوم بذلك بدون تحليل فلسفي عميق للمفهوم، وهو ما سنسعى إليه هنا.

وبداية نقول إن العقلانية ليست مذهبًا مغلقاً يضم فريقاً من الأنصار، مثلما الحال مع الماركسية أو الوجودية أو الليبرالية مثلاً، بل هي نزعة ومنهج في التفكير ينحو إليه المفكرون والفلاسفة بل والفقهاء داخل منظوماتهم ومذاهبهم الفكرية أو الفلسفية أو الشرعية، مُولِين العقل مكانة محورية سواء في نظرية المعرفة أو في فهم العالم، أو -في حالة الفلسفة والفقه الإسلامي- في تحكيم الشرع والاجتهاد في فهم الوحي وتنزيله وتطبيق السنة، وتأصيل بعدهما الإنساني والاجتماعي فيما وراء سياقهما التاريخي.

فالعقلانية اقتراب فكري يعتبر العقل مركزيًّا في توليد المعرفة الصحيحة. ويتحدد معنى “العقلانية” المقصود بحسب المجال: نظرية المعرفة، الدين، علم الأخلاق، المنطق، العلم الطبيعي والرياضي. لكن الاستخدام الأكثر شيوعاً للكلمة يتعلق بنظرية المعرفة واقتراب التعامل مع الدين (وحياً ونبوة) كمصدر للمعرفة.

أما معنى العقلانية في مجال نظرية المعرفة فهو ذلك المذهب الذي يرى أن المعرفة اليقينية لا بد أن تكون أولاً: كلية بحيث تشمل القضية جميع الحالات الجزئية، وثانياً: ضرورية بحيث تلزم النتائج عن المقدمات لزوماً ضروريًّا. وترى العقلانية الفلسفية أن الكلية والضرورة كصفتين منطقيتين للمعرفة الحقة لا يمكن أن تستنتجا من التجربة فقط، وأن عموميتها تستنتج من العقل نفسه: إما من التصورات المفطورة في العقل (مثل نظرية الأفكار الفطرية عند ديكارت)، أو من التصورات الموجودة فقط في صورة الاستعدادات القبلية للعقل التي تمارس التجربة تأثيرها المنبه على ظهورها، لكن سمة الكلية المطلقة والضرورة المطلقة تعطى لها قبل التجريب الواقعي، وأحكام العقل والصور القبلية مستقلة بشكل مطلق عن التجربة (كما عند الفيلسوف الألماني كانط Kant). بهذا المعنى تقف “العقلانية” كفلسفة وكمنهج في مواجهة “التجريبية” التي ترى أن المعرفة اليقينية تنبع من التجربة لا من العقل. وهكذا فإن تميز العقلانية يتمثل في كونها تنكر قضية أن الكلية والضرورة تنشآن من التجربة.

وأما فيما يتعلق بالموقف من الدين؛ فيشير وصف العقلانية إلى أصحاب رؤى متعددة وبالغة التفاوت بما يصعب معه -كما ذكرنا- اعتبارهم مذهبا أو مدرسة فكرية متجانسة، فمنهم القائل بأن المذاهب الدينية ينبغي أن تختبر بمحك عقلي. أو يشير الوصف أحياناً للقائلين بأنه لا يجوز الإيمان بخوارق الطبيعة، وهذا المعنى الأخير لا ينطبق على كل العقلانيين؛ لأن منهم من يقبل المعجزات ويسوغها عقلانيا مثل الفيلسوف ليبنتز، وأيضاً يطلق وصف العقلانية على الذين يقبلون المعتقدات الدينية لكن بعد اختبارها اختبارا عقليًّا، كما يطلق على المؤمنين الذين يفسرون الدين في ضوء العقل ويعتبرون أنهما لا ينفكان عن بعضهما البعض.

فالعقلانية ليست بالضرورة ضد الدين، فهي تيار واسع ومتنوع المشارب ومتفاوت فيما ينطلق منه من مسلمات وينتهي إليه من نتائج. وعلى سبيل المثال اعتقد اثنان من العقلانيين اعتقادات متناقضة تماماً وأخذ كل منهما موقفاً مختلفاً عن الآخر بالكلية بشأن علاقة الدين بالعقل، ففي حين رأى لوك Locke (1632- 1704) أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها، فإن هيوم Hume (1711-1776) أنكر ذلك، أي قال بأنها غير قابلة للبرهنة.

فيجب عدم الخلط –كما هو الحال في بعض الكتابات- بين العقلانية والتجريبية واختزالهما معاً باعتبارهما يمثلان المذهب الوضعي بالمعنى الذي يقابل الغيبي أو الديني، إذ إن العقلانية تؤمن بأفكار عن الفطرة العقلية والرشد العام والمشترك في حده الأدنى بين الناس وهي أفكار من قواعد وأسس التكليف في المنظور الشرعي وعليها تنبني المسئولية الفردية عن التزام التوحيد، بل هي مناط العبودية والحساب. فالتصنيف أعقد من ثنائية الوضعي في مقابل الديني التي نجدها في معظم الكتابات الإسلامية السائدة والتي قليلاً ما تدرس المناهج الفلسفية أو تدرك تركيبها وتنوعها بالعمق الذي فهمها به السلف من الفقهاء أو الفلاسفة المسلمين.

فقد أكد بعض علماء السلف على موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول مثل ابن تيمية، بينما انحرف بعضهم بالعقل في موقفه من الدين مثل أبي بكر الرازي.

وجدير بالذكر أن مصطلح العقلانية كان يستخدم في الفلسفة الغربية الحديثة لوصف الاتجاه المعارض للكهنوت المسيحي والدين، ولا يزال البعض يستخدم العقلانية –خطأ- لتعني معنى متماثلا مع العلمانية أو مع الإلحاد. لكن من وجهة نظر علمية بحتة لا تعني العقلانية بالضرورة هذه المعاني المعادية للدين، بل تحدث عن التوفيق بين العقل والنقل فقهاء المسلمين قبل ظهور العلمانية الغربية وأطروحاتها العقلانية التي كان هدفها التشكيك في المعرفة الدينية وتهميش دور الكنيسة المعرفي ودعم التفكير العلمي الطبيعي والوضعي إبان عصر النهضة. ويمكن القول إن موقف ابن تيمية في كتابه “درء تناقض العقل والنقل” دليل أن العقل الصريح والعقلانية الصريحة لا تدل في حد ذاتها على موقف معاد للدين، ودليل على موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول في الفقه الإسلامي.

لا ينفي هذا أن بعض العقلانيين كانوا بوضوح ضد الدين، لكن لا شك أيضا أن البعض الآخر يؤمنون بالدين، ويضعون الله تعالى في قلب منظومتهم الفلسفية، ويؤمنون بالوحي ويسعون للتوفيق بين العقل والنقل بطرق مختلفة. بل نجد فلاسفة يذهبون إلى أن النهضة الفكرية والمدنية والحضارة لا تقوم بدون الدين، فجيمس ميل (والد جون ستيوارت ميل) والذي كان من أقطاب التنوير في أسكتلندا، يؤكد على الربط بين العقل والدين من ناحية والدين والمدنية والفضائل المدنية من ناحية أخرى، ونجد جون لوك يؤكد على أن من لا دين له لا أمانة له، ولا يمكن الثقة به اجتماعيًّا، وغيرهم كثير.

وعلى أساس هذا التمييز بين الرؤى المختلفة سوف نتناول رؤى العقلانية موضحين طبيعة الاختلافات بين المدافعين عنها.

نشأة وتطور العقلانية

العقلانية تيار له تاريخ طويل، وهي موقف لقطاع كبير من المفكرين، ولها جذورها في الفكر الشرقي القديم، لا سيما في مصر والهند. وقد بدأت كتيار فلسفي في الفلسفة اليونانية، مع سقراط، وأفلاطون. ولقد حاول بعض الفلاسفة المسلمين توظيف العقل للتعبير عن العقائد والأفكار الإسلامية وللدفاع عنها ضد المهاجمين لها، مثل الكندي والفارابي وابن سينا؛ الذين سعوا للتوفيق بين الدين الإسلامي والعقلانية اليونانية. وقد ذهب ابن رشد إلى أن العقل هو الأساس، وإذا ما وجِد بينه وبين الوحي تعارض، فإنه ينبغي تأويل الوحي بما يجعله متفقاً مع العقل.

وفي العصر الوسيط الأوربي كانت العقلانية تتحرك داخل الدين، واتخذت عقائده مسلمات مطلقة، وصار العقل خادما للاهوت المسيحي، سواء لاهوت الأرثوذكسية اليونانية أو لاهوت الكاثوليكية الرومانية. واعتبر العقل أداة للدين، مثلما هو الحال عند أوغسطين (354-430)، وأنسلم (1033-1109)، وتوما الأكويني Aquinas Thomas (1225-1274)؛ حيث كانوا يوظفون الفكر الفلسفي في تبرير العقائد المسيحية، والدفاع عنها ضد الشبهات والانتقادات.

وفي مطلع العصر الحديث، جاء ديكارت الذي يعده الكثيرون أبا للعقلانية الحديثة؛ لأنه -من وجهة نظرهم- انطلق من الفكر العقلاني الخالص كمقدمة أولى استنبط منها الحقائق اليقينية. لكن من وجهة نظرنا أن ديكارت يعود إلى وجهة نظر القديس توما الأكويني Aquinas Thomas (1225-1274) في موقفه من الوحي المسيحي Christian Revelation بوصفه مهيمنا على العقل.

وقد ذهب سبينوزا (Spinoza (1677-1632 إلى القول بمذهب وحدة الوجود؛ أي أن الله والعالم جوهر واحد. ووصل إلى ذلك بطريقته الاستنباطية العقلية الهندسية المعروفة عبر سلسلة من الاستدلالات. ومن العقلانيين في القرن السابع عشر: جولينكس Geulincx (1624-1669)، ومالبرانش Malebranche (1638-1715)، وغيرهما من صغار الديكاراتيين.

ومن أهم الفلاسفة العقلانيين في القرن السابع عشر الفيلسوف الألماني ليبنتز Leibniz (1646-1716)، الذي ذهب إلى وجود توافق تام بين الحقيقة الدينية والحقيقة العقلية؛ ولا مجال عنده لأي نــوع من التنافر بين كنههما؛ فالحقيقتان منسجمتان، لكن أسلوب التوصل إلى الحقيقة الدينية مغاير لأسلوب التوصل إلى الحقيقة العقلية؛ فالأسلوب الأول هو الوحي الخارق للأساليب الطبيعية، بينما الأسلوب الثاني هو الاكتساب العقلي المؤسس على طرق طبيعية. وهكذا ثمة طريقان أو أسلوبان، لكن الحقيقة واحدة تأخذ تارة اسم الحقيقة الدينية تبعا لمنهج التوصل إليها، وتأخذ تارة أخرى اسم الحقيقة العقلية تبعا لمنهج التوصل إليها. وانطلاقا من هذا التوافق بين الحقيقتين يؤسس ليبنتز الإيمان على العقل، مع أنه في أحيان كثيرة يرفع الإيمان فوق العقل ويعتبر العقل عاجزا عن فهم العقائد الإيمانية.

وإذا انتقلنا إلى القرن الثامن عشر نجد هيوم وهو نموذج من الفلاسفة الذين تناولوا بالنقد مفهوم الدين، لكنه نموذج معاكس لديكارت، وهو عقلاني في مجال الدين، أما موقفه من نظرية المعرفة فمحل خلاف. ونكتفي هنا ببيان أن موقفه من الدين موقف نفي وإنكار لأي شكل من أشكال الدين.

وظهر في القرن نفسه الفيلسوف الألماني كانط الباحث عن منجى للإيمان، وطور مذهباً فلسفيًّا في الإيمان الأخلاقي، وذلك طبعاً على حساب إيمان الوحي. وعندما جاء هيجل وحد بين موضوع الفلسفة وموضوع الدين، حيث قال: إن الموضوع واحد، وهو المطلق أو اللامتناهي، لكن الخلاف بينهما يكمن في شكل التعبير، ففي حين تعبر الفلسفة بشكل فكري مجرد، يعبر الدين بشكل مجازي. ذلك أن الروح يرتدي في الدين شكلا خاصا يمكنه أن يكون ملموسا، ويتخذ التمثيل أو المجاز مقرا له، بينما الروح في الفلسفة تتخذ الفكر مقرا لها وتعبيرا عنها. وبهذا تختلف الفلسفة عن الدين، رغم أن المضمون مشترك وموحد فيهما.

وفي القرن الـ 19 اتخذت العقلانية شكل المثالية المطلقة عند هيجل Hegel (1771-1834م) الفيلسوف الألماني، وهو من أكبر الفلاسفة في التاريخ، ويذهب إلى أن الوجود في حقيقته روح مطلق يتطور في التاريخ تطوراً جدليًّا. فهيجل يرى أن الروح اللانهائية أو الفكرة المطلقة غير المحدودة حقيقة وأساس الوجود، وليس المادة. لذا فإن هيجل ضد الماديين الذين يعتبرون أن المادة أصل الوجود، فالمادة عند هيجل ما هي إلا تجلٍّ من تجليات الروح. ويرى هيجل أن للكون روحاً واحدا يتجلى في عدة مراحل متتالية؛ حيث تنتقل الفكرة إلى نقيضها، ثم يتصارع النقيضان ويتفاعلان، وينشأ عن هذا فكرة جديدة مركبة من الفكرة ونقيضها، وتستمر الحركة حيث تمر الفكرة الجديدة بالمراحل الثلاث السابقة نفسها وهلم جرا. ومن هنا ففلسفة هيجل مذهب في وحدة الوجود. وقد وحد بين موضوع الفلسفة وموضوع الدين، وهو المطلق أو اللامتناهي. لكن الخلاف بينهما يكمن في شكل التعبير، فالفلسفة تعبر بطريقة فكرية مجردة، والدين يعبر بشكل مجازي. وبهذا تختلف الفلسفة عن الدين، رغم أن المضمون مشترك وموحد فيهما.

ونظرا لاختلاف العقلانيين في تصورهم لطبيعة العقل، ومن ثم اختلافهم في النتائج التي توصلوا إليها خصوصا بشأن الدين فإن معالم وأسس العقلانية متنوعة، فمن الضروري أن نضع دائماً في الحسبان الفروق النوعية بين الفلاسفة العقلانيين، ويلاحظ انشغالهم بقضايا منها:

1-أولوية المرجعية العقلية: الفكرة الأساسية المشتركة بين العقلانيين في نظرية المعرفة إنكار أن القوانين الموضوعية تستمد من الطبيعة، وأن استنباط شروط المعرفة اليقينية والمبادئ والبديهيات يكون من العقل وليس من الطبيعة.

2- ارتباط مشكلة السببية بالعقل ارتباطاً جوهريًّا؛ لأن العقل في نهاية التحليل يرتد بنيويا إلى السببية. وقد انعكس هذا التصور للعقل على اللغات الأوربية، حيث نجد أن كلمة Ratio اللاتينية أو ما اشتق منها، مثل كلمة Raison الفرنسية وReason الإنجليزية – تدل تارة على ملكة العقل، وتارة على علاقة السببية. ومن هنا فإن حديثنا عن السببية هو حديث عن العقلانية؛ لأن السببية بشرطيها الضرورية والكلية، تستنبط عند العقلانيين من العقل الإنساني لا من الطبيعة. وهذا الرأي الجوهري هو الثابت البنيوي الذي يميز كل الفلسفات العقلانية عن الفلسفات التجريبية المحضة التي ترى أن الروابط السببية والضرورة والكلية إنما توجد في القوانين الموضوعية للطبيعة الخارجية، مستقلة استقلالا تاما عن العقل الإنساني.

3- الجدل بشأن خوارق الطبيعة أو المعجزات، وعلى سبيل المثال قد أنكر هيوم المعجزة، لأنها أمر خارق للطبيعة. يقول: “لا يوجد دليل كافٍ على إثبات وقوع المعجزة، إلا ذلك الدليل الذي إذا أثبت بهتانه كان في حد ذاته أكثر إعجازا من الحادث الذي يحاول إثباته.. ولا يمكن البتة إقامة الدليل على معجزة بحيث تكون أساسا لنظام من الدين”، في حين قبلها البعض الآخر، وتوقف أمامها فريق ثالث بغير إنكار ولا إثبات.

العقل بين الشرع والفلسفة

إذا أردنا مقارنة ومقاربة قضية العقل بين الفلسفة والشريعة فيجب أن نفرق بدقة بين مفهوم العقل في الشرع ومفهومه في نظرية المعرفة في المدارس الفلسفية.

والإسلام لا يرفض العقلانية بكل أنواعها ومستوياتها، إنه فقط يرفض العقلانية الجذرية (أو العقلانية الأصولية إذا جاز التعبير) والتي ترفض أي مصدر للمعرفة غير العقل. لكنه يدعو إلى التعقل المبني على برهنة محكمة كمرحلة من مراحل التفكير من أجل الوصول إلى الحقيقة. ويتجلى هذا بوضوح في دعوة القرآن الكريم للتفكر، ومخاطبته لأهل العقول. والقرآن نفسه قد سلك طريقة البرهنة المباشرة؛ إذ إن القرآن هو الرسالة وهو نفسه البرهان عليها من حيث كونه معجزا لا يمكن الإتيان بمثله، فهو برهان مباشر. كما أن القرآن يستخدم براهين جزئية على قضاياه الجزئية في كل مرة يطرح فيها قضية من هذا النوع، ويدعو المتلقي لفحص هذه البراهين على أسس عقلانية فحصا موضوعيا محايدا… لدرجة جعلت بعض المحللين يقولون بوجود تشابه بين الاستدلالات القرآنية والاستدلالات المنطقية، مثل الغزالي في كتابه “القسطاس المستقيم” الذي بيّن فيه أن أصول القياس العقلي وأشكاله مستخدمة في الاستدلال القرآني. وهناك كذلك من المحللين من يقول بوجود تشابه بين المادة القرآنية بخاصة وبين الفلسفة العقلية في انتهاج طريق البرهان. وعلى سبيل المثال يقول د.محمد عبد الله دراز: “إن أفضل ما يدل على التشابه بين المادة القرآنية بخاصة، وبين الفلسفة – أن نلحظ أن القرآن حين يعرض نظريته عن الحق، وعن الفضيلة لا يكتفي دائما بأن يذكّر بهما العقل، ويثير أمرهما باستمرار أمام التفكر والتأمل، وإنما يتولى هو بنفسه التدليل على ما يقدم، ويتولى تسويغه”.

ويطرح القرآن قضايا تستند إلى حجية العقل المنطقي، مثل إثبات أن الله تعالى واحد، ولو كان له شريك لفسدت السماوات والأرض، وهنا يرتب القرآن قضية شرطية. كما دعا القرآن الكريم إلى استخدام البرهان: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ)، فالعقل حجة وسند يعجز منكر القرآن عن استخدامه بشكل محكم ضد قضايا القرآن. وقد أبطل القرآن ادعاء بعض الفلسفات والأديان التي تقول بأن الإيمان ميدان بعيد عن العقل، ولا بد لمن يريد الإيمان أن يعطل عقله أو يتبع ما عليه الآباء والأجداد.

ولقد أكد القرآن حجية العقل، وأشار إلى العقل والتدبر والتفكر بمترادفات مختلفة عشرات المرات، ومن مترادفات العقل: الحِجر، ويسمى العقل حِجْرًا لكونه يمنع صاحبه من ارتكاب ما يقبح وتضر عاقبته. وأيضا من أسماء العقل: النُهية، والجمع نهى.

وعند ابن منظور: النهى: العقل- يكون واحدا وجمعا، والنُّهية: العقل بالضم، سميت بذلك لأنها تنهى عن القبيح. وفلان ذو نهية أي ذو عقل ينتهي به عن القبائح ويدخل في المحاسن.

وقال بعض أهل اللغة: ذو النهية الذي ينتهي إلى رأيه وعقله. ومن مترادفات العقل في مختار الصحاح: القلب، وهو كذلك في الاستخدام القرآني. ومن أسماء العقل الفؤاد. وقد يعبر عن القلب بالفؤاد. ويسمى العقل لبا؛ لأنه الذي يعلم الحق فيتبعه، فلا يكون للرجل لب حتى يستجيب للحق ويتبعه.

وقد أشار السرخسي في “الأصول” إلى أن العقل عبارة عن “الاختيار الذي يبني عليه المرء ما يأتي به وما يذر مما لا ينتهي إلى إدراكه سائر الحواس، فإن الفعل أو الترك لا يعتبر إلا لحكمة وعاقبة حميدة، والعاقبة الحميدة لا تتحقق فيما يأتي به الإنسان من فعل أو ترك له إلا بعد التأمل فيه بعقله، فمتى ظهرت أفعاله على سنن أفعال العقلاء كان ذلك دليلا لنا على أنه عاقل مميز، وأن فعله وقوله ليس يخلو عن حكمة وعاقبة حميدة. وقد قيل إن العقل أصل لكل علم، وكان بعض أهل العلم يسميه أم العلم، وقد أكثر الناس الخلاف فيه قبل الشرع وبعده”.

وقد سعى الفلاسفة العقلانيون من المؤمنين للتوفيق بين الدين والعقل، مثل ابن رشد الذي يقول في كتابه “فصل المقال”: “وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات، وحث على ذلك… فأما أن الشرع دعا إلى اعتبار الموجودات بالعقل، وتطلُّب معرفتها به، فذلك بَيّن في غير آية من كتاب الله تبارك وتعالى… وإذا تقرر أن الشرع قد أوجب النظر بالعقل في الموجودات، واعتبارها، وكان الاعتبار ليس شيئا أكثر من: استنباط المجهول من المعلوم، واستخراجه منه.. وإذا كان الشرع قد حث على معرفة الله تعالى وسائر موجوداته بالبرهـان، كان مــن الأفضل، أو الأمر الضروري، لمن أراد أن يعلم الله تبارك وتعالى وسائر الموجودات بالبرهان، أو أن يتقدم أولاً فيعلم أنواع البراهين وشروطها…”.

وقد تنبه أهل السنة لمدى مخالفة فهم الفلاسفة اليونان لفهم الإسلام للعقل، ولا سيما ابن تيمية، حيث بيّن فساد آرائهم وفساد منطقهم، وقام بتفنيد هذا المنطق. والملفت للنظر أن المناطقة الغربيين المحدثين ساروا على طريق ابن تيمية نفسه في رفض المنطق الأرسطي. وقد بيّن ابن تيمية أنهم يصيبون في الحساب والطبيعة وكثير من علم الفلك، لكن فلاسفة المسلمين كما وصفهم “خير وأدق، وقلوبهم أعرف، وألسنتهم أنطق، وذلك لما عندهم من نور الإسلام”.

ومع هذا الموقف الناقد بشدة للعقلانية اليونانية، فإن ابن تيمية بيّن أن الفلسفة ليست كلها ضلالا؛ فالفلاسفة الذين استناروا بنور النبوات، واستقلوا بالنظر العقلي دون تقليد أعمى للفلسفة اليونانية، أصوب رأيا وأدق قيلا، مثل أبي البركات البغدادي في كتابه “المعتبر في الحكمة”؛ حيث إنه كما وصف ابن تيمية: “أثبت علم الرب بالجزئيات ورد على سلفه ردا جيدا، وكذلك أثبت صفات الرب وأفعاله”.

نقد وتقويم

لعل أبرز نقد يمكن تقديمه هو أن العقلانية كتيار في نظرية المعرفة لم تنتبه إلى أهمية التجربة في تكوين المعرفة إلا مع الفيلسوف الألماني كانط. وقد بالغت في البحث عن اليقين خارج التجربة، وأغلب العقلانيين، لا سيما غير المعاصرين، نظروا إلى العقل باعتباره كيانا نهائيا ثابتا ومغلقا. ولا شك أن انغلاق العقل على ذاته يؤدي إلى الوقوع في الأوهام؛ إذ لا بد من مصادر أخرى للمعرفة مثل الواقع، والطبيعة، والوحي، والعلم التجريبي والرياضي، والبصيرة (وفيها كلام كثير في الفكرين الغربي والإسلامي).

والثغرة الأساسية في موقف كثير من العقلانيين هي الاعتقاد في ثبات العقل وواحديته أيضاً. وقد وقع أفلاطون وأرسطو وديكارت وسبينوزا وليبنتز وكانط في هذه الثغرة بإضفائهم الثبات المطلق على صورة العقل ومقولاته ومبادئه. وهذا التصور أثبتت نظرية المعرفة الحديثة قصوره؛ لأن العقل كأي ظاهرة تاريخية قابل للتغير والتطور، وفى كل مرحلة تاريخية جديدة يتجاوز ذاته حيث يعيد بناءها بشكل جديد.

أيضاً من التسرع إصدار حكم واحد على جميع العقلانيين في موقفهم من الدين كأنهم زمرة واحدة؛ فالعقلانية تيار واسع ومتشعب، والمنتمون إليها لم ينتهوا إلى نتائج واحدة بشأن الدين؛ لأن العقلانية تيار ليس بالضرورة ضد الدين، فهي تركيبة متنوعة تضم المؤمن وغير المؤمن؛ لأن العقل بطبيعته نسبي فيما ينتهي إليه من نتائج. وبعض العقلانيين لا يجوّز الإيمان بخوارق الطبيعة مثل هيوم وكنت، لكن بعضهم يقبلها ويسوغها عقلانيا مثل ليبنتز. وكذلك بعضهم يقبل الدين وعقائده لكنه يفهمها في ضوء العقل ويبرهن عليها بأدلة عقلانية. وعلى سبيل المثال اعتقد لوك أن المبادئ الإلهية والأخلاقية قابلة لإقامة البرهان العقلي عليها، أما هيوم فأنكر ذلك، أي رفض أنها قابلة للبرهنة.

وقد أثبت بعض العلماء المسلمين موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول مثل ابن تيمية، بينما انحرف بعضهم بالعقل في موقفه من النبوة مثل أبي بكر الرازي. ولا شك أن كثيرا من العقلانيين يتخذون من الدين موقفا نقديا جزئيا أو شاملا، لكن بعضهم يقبله كله كما جاء في نصوصه الأصلية. ومن ثم ينبغي الحكم عليهم فردا فردا وليس كلهم جملة واحدة. وإجمالا نقول: إن الإسلام يرفض العقلانية المتعصبة للعلمانيين والملحدين وغيرهم من الذين جعلوا العقل معصوما لا يخطئ، والذين أنكروا الوحي والمصادر المعرفية الأخرى. كما يرفض الإسلام موقف الذين يتسرعون برفض العقائد الدينية استنادا إلى عقل نسبي، أو الذين يتسرعون بتأويل العقيدة لتوافق آراء غير يقينية، أو الذين يعتبرون العقل هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الحقيقة المطلقة. وفي الوقت نفسه يرفض موقف الذين لا يستخدمون عقولهم بل ويشبههم القرآن بالأنعام، أي أن العقل هو مناط الاستخلاف وميزة الإنسانية وسمة البشرية وبه يتحقق الاستخلاف.

مدار الساعة ـ