أخبار الأردن اقتصاديات مغاربيات خليجيات دوليات جامعات وفيات برلمانيات وظائف للأردنيين رياضة أحزاب تبليغات قضائية مقالات مقالات مختارة أسرار ومجالس مناسبات جاهات واعراس الموقف شهادة مجتمع دين اخبار خفيفة ثقافة سياحة الأسرة طقس اليوم

قصة التغريب في الدولة العثمانية

مدار الساعة,أخبار ثقافية,رئيس الوزراء
مدار الساعة ـ
حجم الخط

مدار الساعة - يعد الاطلاع على التجربة العثمانية في التحديث ذات أهمية كبيرة لفهم ما جرى في التجربة العربية التي كانت في بعض فصولها وأحداثها صدى لما يجري في دولة الخلافة، أو استنساخ لها، ويقدم كتاب “المثقفون والسلطة..تركيا نموذجا” للدكتور محمد حرب، والصادر عن دار البشير للثقافة والعلوم بالقاهرة في طبعته الأولى عام 2017، في (176) صفحة، بيانا ملخصا ومكثفا عن رحلة التحديث والتغريب في تركيا، والتي كانت كثيرة الفصول لكنها واضحة الهدف والغاية.

المثقف صانع الحلم

كان المثقف العثماني عميق الصلة بمصادر الثقافة الإسلامية ويجيد في الغالب اللغات الثلاث: التركية والعربية والفارسية، وفي الفترة التي شهدت انطلاق الدولة العثمانية نحو العالمية كان المثقف حاضرا بجوار السلطة والسلطان، يرشد خطواتها ويقوم مسلكها، وتجلى ذلك في الدور الذي لعبه “آق شمس الدين” ذلك المصلح الكبير الذي كان ملازما للسلطان محمد الفاتح، فكان “آق شمس الدين” معلم السلطان ومربيه، وكان متنوع المعارف والعلوم بجانب تدينه وزهده وتمثله السلوكي والروحي للقيم التي يحملها، فبجانب معرفته الراسخة بالعلوم الإسلامية، كان عالما بالرياضيات والفلك والتاريخ والنبات والطب، وله كتابات طبية مبكرة في تشخيص مرض السرطان، كما كان عارفا بالسياسة وعلوم إدارة الدولة، لذا لعب دورا إصلاحيا نهض بالدولة من الإمارة إلى الإمبراطورية.

ففي تلك الفترة المبكرة من نشأة الدولة العثمانية كان المثقف صانعا لكثير من أحلامها، حاضرا ومتفاعلا مع مشكلاتها وأزماتها، ونشير هنا إلى التغيرات التي عاشتها الدولة مع اكتشاف رأس الرجاء الصالح (1498م) وحدوث تحولات كبرى في حركة التجارة العالمية انعكست بالسلب على العثمانيين فارتفعت الأسعار ووقعت وتمردات على سلطة الدولة، وانتشر الفساد، لذا لوحظ أنه منذ القرن السابع عشر الميلادي أخذ المثقف العثماني يكتب عن ضعف الدولة ومثالب الإدارة وضرورة الإصلاح، وأنصتت السلطة إلى نصائح مثقفيها، فنشطت حركة إصلاحات أدارتها عائلة “كوبريلي“([1]) الشهيرة التي تولت الصدارة العظمى([2]) في الدولة العثمانية([3])، في عهدي السلطان عثمان الثاني (المتوفى 1622م) ومراد الرابع (المتوفى 1640م) كانت تلك الإصلاحات قائمة أساس التاريخ والثقافة العثمانية، غير أنها لم تؤت نتائجها المرجوة، ولعل ذلك يرجع إلى أن الجهود انصرفت إلى إصلاح نظام تشغيل الدولة وإدارتها، ولم تتجه إلى إصلاح الأفكار التي تقف وراء نظام التشغيل والإدارة ذاته.

العثمانيون والاتجاه غربا

انتهت ومضة عائلة “كوبريلي” سريعا، وبدأت تتسلل إلى الدولة العثمانية أمراض جديدة، أبرزها تزايد الفجوة بين المثقف والسلطان، فضعف تكوين السلطان العلمي والروحي، وأخذت تتمرد فرق الإنكشارية ([4]) التي كانت القوة الضاربة في الجيش العثماني، ليأتي العهد الثاني في الإصلاح زمن السلطان أحمد الثالث (المتوفى 1730م) وفي هذا العهد كانت مياه جديدة تجري في وجدان المثقف العثماني، حيث نشطت حركة الترجمة، وبدأ المثقف العثماني يتأثر بالثقافة الغربية، حتى إن الدولة العثمانية أرسلت عام (1720م) مثقفا بارزا هو “يكرمي سكز محمد جلبي” في سفارة إلى فرنسا، وانعكست هذه السفارة على السلطان وحاشيته، حيث أخذت الأذواق الفرنسية في القصور والأثاث والاستمتاع، تترسب إلى النخبة العثمانية، وبذلك انصرفت النخبة إلى قشرة التمدن وليس جوهر الحضارة.

كان السلطان أحمد الثالث مثقفا، وتميز عهده بالاستقرار، وسرت روح داخل الدولة العثمانية لفهم الأسباب الحقيقة التي تقف وراء التقدم الغربي، فأخذ السلطان يدعو الفنانين والمثقفين الغربيين لزيارة قصره، وفي تلك الفترة نشأت مطبعة عربية في استنابول عام (1727م) وتزايد الانفتاح العثماني على فرنسا، واقتباس أساليب حياتها، ومع تغير نمط الحياة عانت البلاد من الغلاء، وأخذت الموارد العثمانية تستنزف للخارج، ووقعت الدولة العثمانية عدة اتفاقيات اقتصادية مع الدول الغربية حصلت بموجبها تلك الدول على امتيازات ضخمة، منها الاتفاقية التجارية مع بريطانيا عام 1838م.

بداية التغريب العثماني

سهلت اتفاقية (1838م) العثمانية الانجليزية التدخل الأوروبي في الدولة العثمانية اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، وفي العام التالي للاتفاقية صدر “خط كلخانة” مؤديا إلى تغيير كبير في الهوية الثقافية العثمانية، إذ كان الفرمان البداية الحقيقية لحركة التغريب وبداية الازدواجية الثقافية، فقد أصدر السلطان عبد المجيد عام 1839م مرسوما بإعلان تنظيم الدولة العثمانية وفق النظم الغربية.

ويلاحظ أن السلطان عبد المجيد (المتوفى 1861م) كان نصيرا للتغريب، وهو ما شجع المثقفين العثمانيين على هجر الثقافة الإسلامية والعثمانية، واندفاعهم نحو الثقافة الغربية، فأخذ التغريب يفرض نفسه على جميع المناحي الثقافية والفكرية بما فيها طريقة كتابة التاريخ التي اتخذت منهجا جديدا، وأصبحت الفرنسية هي اللغة الأولى للمثقفين، كذلك نشطت حركة الترجمة عن الفرنسية، وتبنى بعض المثقفين العثمانيين أفكار الثورة الفرنسية في مواجهة السلطة العثمانية، ومع مرور الوقت كانت الازدواجية الثقافية تبدو بجلاء في نخبة مثقفة تهيمن على الثقافة والإدارة وقريبة من السلطة، ومثقفين متمسكين بثقافتهم الإسلامية والعثمانية لكنهم بعيدون عن دوائر التأثير والقرار والإدارة .

كان الاتجاه التغريبي يرسخ وجوده في الثقافة وبنية السلطة، فصدرت بعض الصحف التي تعبر عن الثقافة التغريبية، كذلك اندفع السلطان العثماني عبد العزيز (المتوفى 1876م) نحو التحديث على النمط الأوروبي، وقام لأول مرة في التاريخ العثماني بجولة في عدد من الدول الأوروبية، حيث كان السلطان لا يغادر عاصمته إلا للجهاد فقط.

أدت جولة السلطان “عبد العزيز” الأوروبية إلى أن يخطو المثقف العثماني نحو الثقافة الأوروبية بثقة، وعندها أخذ النظام التعليمي العثماني يتغير جذريا نحو النموذج الغربي، فأنشئت المدارس على النظام الأوروبي، ومنها تعليم البنات حيث افتتحت مدرسة الرشيدية للبنات عام (1858م)، وحدثت ازدواجية في التعليم، وغادر الغالبية نظام التعليم العثماني التقليدي.

دخلت الولايات المتحدة على خط التغريب في الدولة العثمانية، فأنشئت كلية “روبرت كوليج” عام (1853م) وكان ينفق عليها رجل الأعمال الأمريكي “هرستيفر روبرت” من ماله الخاص حتى وفاته عام (1878م) وأوصى بخمس ثروته لها، وكان هدفه إيقاظ الفكر القومي بين الشعوب العثمانية، ومساعدة المتأثرين بالثقافة الغربية في الحصول على النفوذ في الدولة العثمانية، كذلك خلق مثقف عثماني يتحمس للفكر الغربي، وتخرج في هذه الكلية “خالدة أديب” أشهر اسم تغريبي نسائي، وكذلك الشاعر “توفيق فكرت”، و”أحمد إحسان” الذي أنشأ عام (1891م) مجلة “ثروت فنون” لنشر الفكر الغربي.

اتجه المثقفون العثمانيون المتغربون إلى المطالبة بإصلاحات في نظام الحكم، وكونوا عام (1865م) جمعية سرية لنشر الوعي بالحرية، واضطر السلطان العثماني في العام التالي إلى إقالة الصدر الأعظم، وتعيين شخصيتين من المتأثرين بالثقافة الغربية هما: “مدحت باشا”، و”حسين عوني” الذي أسندت إليه وزارة الحربية، ولم يلبث عوني أن حاصر السلطان عبد العزيز في قصره في (مايو 1876م) وعزله، وولى مكانه السلطان مراد الخامس، وكان مراد شديد التأثر بالثقافة الأوروبية، لكنه كان يتعرض لنوبات تشبه الصرع، فما لبث أن عُزل بعد شهور، وتم تعيين أخوه عبد الحميد الثاني سلطانا في (سبتمبر 1876م) والذي استمر في الحكم ثلاثا وثلاثين سنة .

انتصار التغريب

كان السلطان عبد الحميد الثاني يتخذ موقفا سلبيا من المثقفين العثمانيين من ذوي الثقافة الغربية، ويعمل على إضعاف نفوذهم في الدولة والمجتمع، ورغم نجاح الضغوط الغربية والمثقفين المتغربين في إصدار العثماني في (ديسمبر 1876) وتشكيل “مجلس المبعوثان”([5]) حيث كان صدور الدستور تتويجا لجهود المثقفين العثمانيين المتغربين على مدار أربعين عاما ، غير أن السلطان عبد الحميد استغل الحرب مع روسيا لتعطيل الدستور وتجميد مجلس المبعوثان في (فبراير 1878).

ضرب السلطان عبد الحميد الثاني آمال المثقفين العثمانيين المتغربين ضربة موجعة، وسعى إلى النهوض بالدولة آملا في إيجاد مثقف عثماني غير منحاز للغرب، لكن يبدو أن تيار التغريب كان أقوى من السلطان، إذ نشأت حركة تركيا الفتاة وعقدت مؤتمرها الأول في باريس (1902) بحضور خمسين من المثقفين العثمانيين المعارضين، وسعوا إلى جر الجيش إلى حركتهم من أجل تغيير أيديولوجية الدولة العثمانية.

ارتبطت حركة “تركيا الفتاة” بالماسونية، وكان اليهودي الماسوني “عمانويل قره صو” من أبرز أعضائها، والذي أصبح فيما بعد عضوا في البرلمان العثماني، بعدما اضطر السلطان عبد الحميد إلى إصدار دستور جديد في (يوليو 1908م) وعودة انعقاد مجلس المبعوثان، وبذلك تحققت إرادة المثقفين العثمانيين في تشكيل الدولة على النمط الأوروبي، وفي (22 أبريل 1909م) يقف “أحمد مختار باشا” من كبار المثقفين العسكريين المتغربين في مجلس المبعوثان ليخلع السلطان عبد الحميد، وبذلك أصبح المثقف العثماني ذي التوجه الغربي هو صاحب السلطة والنفوذ في الثقافة والحكم.

مدار الساعة ـ