مدار الساعة - لما بدأ تدوين كتب أصول الفقه خرجت لنا منهجيتان؛ منهجية الجمهور أو المتكلمين، ومنهجية الأحناف أو الفقهاء، وسميت طريقة الجمهور بطريقة المتكلمين لأن من قاد التصنيف هم السادة الشافعية، وكثير منهم كان على طريقة المتكلمين، ويكاد يكون فقهاء المالكية والحنابلة تبعا للشافعية، لأن الشافعية كان لهم السبق في التأليف والتصنيف، وعلى رأسهم الإمام الشافعي الذي سطر أول كتاب كامل في علم الأصول وهو ( الرسالة)، ونسب إليه العلم، على أنه ليس أول من كتب مباحث في علم أصول الفقه، بل سبقه جعفر الصادق ومحمد بن الحسن الشيباني وغيرهما، ولهذا نجد – مثلا- أن ورقات الجويني شرحها كثير من المالكية والحنابلة، بل إن كتاب (الروضة) لابن قدامة الحنبلي هو مستفاد من كتاب ( المستصفى) للإمام الغزالي.
على أن تقسيم أصول الفقه إلى مدرسة المتكلمين ومدرسة الأحناف ثم طريقة الجمع بينهما، ثم طريقة إضافة المقاصد، ثم تخريج الفروع على الأصول، فكلها في طريقة التصنيف والكتابة.
ومن الملاحظ أن هناك من نسب إلى المتكلمين وليس منهم، فكتاب الرسالة للشافعي منسوب إلى المتكلمين، ولم يكن منهم، وكتاب التمهيد لأبي الخطاب، وكتاب الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي، وكتاب التبصرة، وكذلك اللمع لأبي إسحاق الشيرازي، وكتاب قواطع الأدلة للسمعاني، وكتاب المقدمة الأصولية لابن القصار، وكتاب الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، كل هؤلاء ليسوا من علماء أهل الكلام، لكن نسبوا إليهم.
وهناك من الباحثين من قسم طريقة التصنيف إلى ثلاثة مناهج:
المنهج الأول: منهج المتكلمين، وهو الذي برزت فيه مباحث علم الكلام، والتركيز على التنظير مع قلة ذكر الأمثلة، وعدم الميل إلى النزعة المذهبية الفقهية، كما في كتابات الباقلاني والقاضي عبد الجبار، وأبو الحسين والرازي والآمدي.
المنهج الثاني: منهج الفقهاء، وقل فيه الحديث عن علم الكلام والتطرق إلى مباحثه، مع كثرة ذكر الأمثلة وظهور النزعة المذهبية، ويظهر هذا في كتابات الشيرازي وابن السمعاني، وهو أكثر عند الحنفية، مثل الدبوسي والبزدوي والسرخسي.
المنهج الثالث: منهج الجمع بين المتكلمين والفقهاء، ويغلب عليه التبحر في الفقه مع الجمع بين الطريقتين، كما في كتابات الجويني والغزالي، وكذلك الجصاص والكرخي من الحنفية.
ولا بد أن نفرق بين أمرين:
الأول: طريقة تأليف الكتب الأصولية في المذاهب
فهذه لا تظهر فيها المذهبية، وليس تصنيف الكتب الأصولية، كما هو الحال في الكتب الفقهية، ففي الفقه يظهر الاختلاف واضحا بين كتب الحنفية وكتب المالكية وكتب الشافعية وكتب الحنابلة، أما في كتب الأصول، فهناك طريقة المتكلمين وطريقة الأحناف أو الجمع بينهما.
الثاني: أصول الاجتهاد
فأصول الاجتهاد مختلفة بين المذاهب، فقد امتاز كل مذهب من المذاهب بأصوله التي تفرد بها عن المذاهب الأخرى، ومن هنا، نشأت المذاهب الفقهية، فأصل المذاهب الفقهية هي طريقة الاجتهاد التي رسمها الإمام الأول، وتبعه فيها تلامذته وأتباع المدرسة.
على أن هناك حراكا اجتهاديا حصل في عصرنا، لم يرصد، وهو من أهم ملامحه:
أولا– غياب مجتهد التخريج المذهبي
فنلاحظ أنه لم يعد هناك من يفتي في المسائل المعاصرة والنوازل الحادثة على أصول مذهبه، رغم تمسك كثير من الفقهاء بالمذاهب الفقهية والمحافظة عليها، وتدريس كتبها في الفقه والأصول، إلا أنه لم يعد هناك امتداد للاجتهاد المذهبي في القضايا المعاصرة، بل غالب الآراء الفقهية تعود إلى الاجتهاد بناء على الأصول بعيدا عن المذهبية، وأسباب هذا:
1 – ظهور مدرسة الاجتهاد بناء على الدليل، وقد ظهرت منذ قرون عديدة، أمثال ابن تيمية وابن القيم والصنعاني والشوكاني وغيرهم، وهناك من العلماء المعاصرين من ينحو نحوهم، بل يزيد عليهم بما يخرج عن طوقهم ومنهجهم.
2 – انحسار الخلاف الأصولي، فلم يعد الحديث اليوم عن حجية بعض الأدلة المختلف فيها، فغالب الفقهاء المعاصرين يعملون بالمصالح المرسلة والاستحسان والاستصحاب وغيرها من الأدلة المختلف فيها، وإن تفاوتت نسبة الاستعمال بينهم.
3- العناية بالمقاصد الشرعية والقواعد الفقهية، وإعمالها في الاجتهاد الفقهي المعاصر.
ثانيا– غلبة الفقه المقارن على الفقه المذهبي
فالثقافة الغالبة عند كثير من الفقهاء المعاصرين هي ثقافة الفقه المقارن، وانحصار الفقه المذهبي في التدريس والتعليم، بخلاف الاجتهاد في القضايا المعاصرة والنوازل الحادثة، فلم يعد هناك من يجتهد في القضايا المعاصرة بناء على المذهب الفقهي.