مدار الساعة - إن البحث في القرآن لا ينتهي ولن ينتهي فهو معين لا ينضب؛ ورغم كثرة الدراسات القرآنية فلا يزال القرآن الكريم يهب الجديد من أسرار عجائبه التي لا تنقضي في دلالة عملية لإعجاز لفظه وعبارته، وفي دراسة جامعية جديدة عن أسلوب التعليل في القرآن، أكدت الباحثة الفلسطينية نجوى نايف عبد النبي شكوكاني أهمية الدرس البلاغي للقرآن وضرورة البحث فيه كونه يخاطب العقل والوجدان معًا، ويبرز ما للقرآن من أسرار تتكشف بالدارسة، وهو ما يجعلنا نقرأ القرآن بطريقة مغايرة تزيدنا يقينًا وتطمئن به قلوبنا جيلاً بعد جيل.
وهدفت الدراسة والتي جاءت تحت عنوان: “التعليل في القرآن الكريم وأثره على العالم والمتعلم” والتي حصلت فيها الباحثة على درجة الدكتوراه من الجامعة الإسلاميّة العالميّة بماليزيا إلى توضيح المنهج السليم في التعامل مع أسلوب التعليل في القرآن الكريم من خلال إبراز أثره الشامل في العَالِم والُمتعلِّم نتيجةً لتكرار الأخذ به وتطبيقه على مجالي التعلّم والتعليم؛ وذلك من خلال بعض المواضيع والأساليب التي وَرَدَ بها، تلافيًا للاقتصار على الجانب النظري المعهود عند البحث.
وعلى سبيل تحرير الألفاظ بتوضيح معانيها للوصول إلى نتائج دقيقة، عمدت الدراسة إلى بيان المقصود بأسلوب التعليل في القرآن الكريم عند علماء الأصول والنحو والتفسير، مبينة أهمية أسلوب التعليل في القرآن الكريم، والأدوات التي استُخدمت فيه، كما بينت الموضوعات التي استَخدم فيها القرآن الكريم أسلوب التعليل، واستنتاج آثار كل ذلك وفوائده، إضافة لإبراز أثر أسلوب التعليل في القرآن الكريم على العالم والمتعلم، مع بيان مجالات التأثر به فكرًا وسلوكًا.
ونقدت الدراسة الجنوح المادي الكبير عن التفكير في عصرنا هذا، معللة أن هذه المشكلة نشأت من ضعف التفكير والتعليل والتدبر والتبحُّر حتى إنه الكثيرين أقنع نفسه بطاقات محددة وإمكانات حاسوبيّة، معتبرة أن هذا له سلبياته وآثاره الوخيمة على المستويين الفردي والجماعي للأمة، ونهوضها وتخلفها، من هنا اكتسبت موضوع البحث أهميته خاصة في مواقع التعليم والتعلم، فليس المهم أن أتعلم وأعلم، بل الأهم من ذلك هو ماذا أتعلم وماذا أعلم.
ويبين ذلك ابن خلدون في مقدمته في مواضع كثيرةٍ؛ منها قوله: فيكون الفكر راغبًا في تحصيل ما ليس عنده من الإدراكات، فيرجع إلى من سبقه بعلمٍ، أو زادٍ عليه بمعرفةٍ، أو إدراكٍ، أو أخذه ممن تقدمه من الأنبياء الذين يبلغونه لمن تلقاه، فيُلقَّن ذلك عنهم، ويحرص على أخذه وعلمه.
مثلًا سيسأل ابتداءً عن أسباب صلاح المجتمعات، وأسباب فسادها، وبعد معرفة الأخلاق الحسنة التي يتخلق أهلها بها، سيَسأل عن خلق الصدق وفوائده، وأسباب دعوة الإسلام له أي كأسلوب القرآن الكريم في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ﴾ [التوبة:١١٩]، وهكذا يتدرج المعلم، ويفتح باب النقاش أيضًا للطالب حتى يسأل عن الأسباب والمسببات والعلل. وبذا يتأثر المتعلم بأسلوب معلمه التعليلي، فيرسخ العلم عنده ويفهمه من جهة، ومن جهةٍ أخرى فإنه مع تكرار استخدام المعلم لهذا الأسلوب؛ فإنه سيتدرب على مهارات التعليل وإقامة الحجة على صحة الرأي ووجهة النظر فسيصبح ذلك منهجًا وسلوكًا للمتعلم؛ فتنمو قدرته على التفكير العلمي الإبداعي.
وانتهت الدراسة إلى جملة من النتائج، أهمها تعدد المعاني اللغوية والتعريفات الاصطلاحية للفظ “تعليل”، إلا أنها تمحورت حول فكرة المعاودة من حالٍ إلى حالٍ مع الانشغال بذلك الموضوع، حتى يصل إلى نتيجةٍ وسببٍ أو أثر، أيضًا أن معاني أسلوب التعليل اللغوية والاصطلاحية لها علاقةٌ كبيرةٌ مع أهداف هذه الدراسة فهو الطريقة الفنية الخاصة التي تُسلك لبيان العِلِّة أو السبب لأمر ما ولتحقيق غاية ما؛ والفائدة المؤدَّاة من خلاله تتعدى الفوائد المجتباة من خلال التراكيب اللغوية، كالبلاغة وبالبيان، والبديع وغيرها، وهذا يفتح مجالًا رحبًا للاستدلال على آثارٍ فكريَّةٍ وسلوكيَّةٍ على العالم والمتعلم في بناء حياتهما.