أكثر من حالة غضب، وأكثر من معركة عض أصابع، وبالتأكيد أكثر من "حرب بارد" بين عمّان وتل أبيب، فما تشهده العلاقات الأردنية الإسرائيلية يوحي وكأن طبول حرب تُدق على الأبواب، والتصعيد تجاوز الحرب الكلامية؛ حتى أن جريدة الغد اليومية كان عنوانها الرئيسي قبل أيام "سيوف الكرامة: مواجهة الخطر القادم من الغرب" في إشارة واضحة إلى المخاطر القادمة من إسرائيل تجاه الأردن.
"سيوف الكرامة" كان اسم المناورات العسكرية التي أجراها الجيش العربي الأردني قبل أيام، وحظيت بترويج واسع، وحضرها العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وبُنيت على فرضية غزو قادم من إسرائيل يقوم خلالها الجيش الأردني بتدمير الجسور على نهر الأردن، وأبرز ما في مشهد المناورة الاسم الذي أطلق عليها، ويستحضر معركة "الكرامة" التي انتصر فيها الجيش الأردني بالتحالف مع الفصائل الفلسطينية على قوات الاحتلال الإسرائيلي عام 1968.
الأزمات بين عمّان وتل أبيب ليست وليدة اليوم، ورغم مرور 25 عاما على معاهدة السلام؛ فإن الواقع يشي أن الاتفاقية ليست سوى حبر على ورق، والمشكلات المُستعصية بين البلدين تتفاقم، ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو يُصر قبل سقوطه ومحاكمته أن يكتب شهادة وفاة عملية السلام برمتها، وأيضا نعي العلاقات الأردنية الإسرائيلية، والصورة بالنسبة للمسؤولين الأردنيين واضحة "حماقات مستمرة يرتكبها نتانياهو"، واحدة تلو الأخرى، مسترجعين مشهد استقباله قاتل الأردنيين بالسفارة الإسرائيلية في عمّان كالأبطال، دون الالتفات لما قد يسببه من حرج للقيادة الأردنية، وكل ما يشغله تحقيق مكاسب سياسية للبقاء رئيسا وحاكما في إسرائيل حتى ولو كان ثمن ذلك دمارها.
في مشهد العلاقات بين الجانبين تفاصيل كثيرة تستحق التوقف، فالأردن لم يكن مُعتادا أن يستخدم "دبلوماسية خشنة" مع تل أبيب رغم الخروقات الإسرائيلية للاتفاقيات ومعاهدة السلام، ولا يبدو أن المعلومات المتسربة عن زيارة مُحتملة للرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين إلى عمّان حسب ما أفادت جريدة "معاريف" كفيلة بترميم الخراب الذي أحدثه نتانياهو.
فلأول مرة يُحاكم إسرائيلي علنا في عمّان أمام محمة أمن الدولة بعد مرور 25 عاما على اتفاقية السلام، وتوجه له تهمة التسلل وحيازة مواد مخدرة، وتصر الدولة على أن لا يطوى هذا الملف رغم عودة أسيريها "هبة اللبدي وعبد الرحمن مرعي"، وتتعالى أصوات حتى تحت قبة البرلمان مُطالبة بإتمام صفقة تبادل ثمنها السجين الإسرائيلي المتسلل "كونستانتين كوتوف" مع المعتقلين الأردنيين بالسجون وعددهم 23 بالإضافة إلى 30 مفقودا أردنيا منذ حرب 1967.
لا تُظهر الحكومة الإسرائيلية اهتماما بالسجين الإسرائيلي في عمان، ويحاول نتانياهو المتهم بالرشوة وخيانة الأمانة والاحتيال، التشبث بالسلطة حتى يحمي نفسه من الانهيار، ويرى أن قرارات مثل "ضم غور الأردن"، وشرعنة المستوطنات بدعم من إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب ربما تُعطيه أفضلية في سباق رئاسة الحكومة قُبيل إعادة الانتخابات للمرة الثالثة، ولهذا فإن حنان عشراوي القيادية الفلسطينية تُشخص الأزمة بالقول "خنوع نتانياهو الرخيص لقاعدته الانتخابية العنصرية والمتطرفة تكشف أجندته السياسية الحقيقة المتمثلة بفرض إسرائيل الكبرى على كل فلسطين التاريخية، وتنفيذ أجندة تطهير عرقي".
لا يوجد ما يخسره الأردن في علاقاته مع إسرائيل الآن، وواقع الحال أن "صفقة القرن" التي روجت لها الإدارة الأميركية بزعامة ترامب تحققت على أرض الواقع دون احتفالات ومراسم توقيع، وإسرائيل بدعم أميركي تُغير حقائق الجغرافيا وتتلاعب بالتاريخ، فالقدس أصبحت عاصمة لإسرائيل، والسفارة الأميركية نقلت إليها، رغم كل الاحتجاجات، والجولان ضمت للسيادة الإسرائيلية، والمستوطنات أصبحت شرعية ولا تُخالف القانون الدولي، وضم غور الأردن الأكبر مساحة في الأراضي الفلسطينية في الطريق لانتزاعه وضمه لإسرائيل، والعصف بالوصاية الهاشمية على المقدسات الإسلامية والمسيحية بالقدس يحدث ويتكرر، فلماذا يعبأ الأردن بعلاقاته مع دولة لم تُنتج له سوى الأزمات؟
الأسئلة المتصاعدة من عمّان، لماذا على الأردن ضبط النفس والانحناء للعواصف القادمة من تل أبيب، وهو يشعر أن استقراره لم يعد خطا أحمرا ومسلما به عند اليمين الإسرائيلي، وأن التهجير، والتوطين، والوطن البديل مفردات أصبحت دارجة ويُجاهر بها إسرائيليا، والثمن سيكون على حساب عمّان، وكلمات الجنرال الإسرائيلي "عاموس جلعاد" العلاقة مع الأردن كنز استراتيجي لم تعد تجد اهتماما، أو آذانا صاغية؟
منحنى العلاقات بين البلدين مرشح لمزيد من التراجع، والتعاون الوحيد المعلق حتى الآن ويتسبب بغضب شعبي هو اتفاقية الغاز، وتسربت معلومات غير مؤكدة أن وزيرة الطاقة الأردنية تدرس مع أركان الدولة خيارات إلغائها قبل أيام من سريان العمل بها، والمحظور الذي يمنع هذا القرار الشروط المالية الجزائية الواردة بالاتفاقية.
حديث المنافع الاقتصادية للجانب الأردني لم يكن أكثر من سراب، فتقديرات التبادل الاقتصادي الأردني مع السلطة الفلسطينية مختلفة ومتباينة، لكتها تتفق على أنها محدودولا تزيد في أفضل أحوالها عن 160 مليون دولار، في حين أن الصادرات الإسرائيلية لأراضي السلطة تزيد عن 4 مليارات دولار، والمعلوم أن القيود الإسرائيلية هي ما يحول دون تزايد التبادل الاقتصادي الأردني الفلسطيني.
وحتى مشروع قناة "ناقل البحرين" الذي يربط البحر الأحمر بـ البحر الميت، فإن إسرائيل تُماطل وتعطل تنفيذه، وتصريحات المسؤولين الأردنيين مؤخرا أنها ماضية بتنفيذه حتى دون مشاركة الإسرائيليين، وستطرح عطاءات التنفيذ قريبا.
آخر الأزمات كان تدشين إسرائيل بمطار "تمناع" على مقربة من مطار العقبة، واعتبرته الحكومة الأردنية مخالفا، ويُشكل خطرا على الملاحة الجوية، وقُبيل أيام أُعلن في عمّان عن كسب معركة قانونية بعدم شرعية هذا المطار وبضرورة وقف العمل به.
أكثر الصفعات الموجعة لإسرائيل كانت قرار الأردن بعدم تجديد تأجير أراضي الباقور والغمر، وإصرار القيادة الأردنية أن التجديد والتمديد لاتفاقية التأجير غير ممكن، وتجاهل كل الضغوط والواسطات الإسرائيلية لهذه الغاية.
على ما يبدو أن صفحة جديدة من العلاقات الأردنية الإسرائيلية تُدشن ولا تعرف الود، وعنوانها التصعيد والاشتباك مادام نتانياهو في السلطة، وما دام اليمين الإسرائيلي المتطرف لا يبالي بمصالح الأردن، وما دامت إدارة الرئيس ترامب كما يصفها صائب عريقات "قد تحولت من مؤيدة لإسرائيل إلى مؤيدة للاحتلال الإسرائيلي".
إطلاق رصاصة الرحمة على اتفاقية السلام لم يحدث حت الآن، فالرهانات على سقوط نتانياهو قد تُعيد إنتاج علاقات أكثر توازنا مع الأردن، وأقل مراهقة، واعتقادا أن القفز إلى علاقات تطبيعية مع بعض دول الخليج يُغني عن الحاجة لعمّان، وهذا مرتبط بالتوازي أيضا مع انتظارات أن تُعيد واشنطن مراجعتها لسياساتها الخارجية، والتوقف عن محاصرة ومعاقبة عمّان سياسيا لرفضها الخضوع لإملاءات "كوشنير" وصفقة القرن، وربما التباشير الإيجابية تسمية سفير أميركي في عمّان بعد ثلاث سنوات من الغياب، ومطالبة الكونغرس بدعم خطة سلام على أساس حل الدولتين.
التحولات في مواقف تل أبيب وواشنطن من عملية السلام ليست سهلة، ولا يمكن التوهم باستدارة، ولكن على الأقل فرملة "الطيش" السياسي، والعواصف التي تعيشها منطقة الشرق الأوسط، وعمّان في القلب منها.(الحرة)