مدار الساعة - حظيت السيرة النبوية باهتمام الدارسين والمستشرقين الغربيين منذ وقت مبكر، فترجموا سيرة ابن هشام وعدد من كتب السير والمغازي، ووضعوا مصنفات عديدة حول سيرة نبي الإسلام، وممن أشهر من صنف في ذلك: جولدتسيهر ومونتجمري وات وجوستاف لوبون وستانلي بول وغيرهم، وبالنظر إلى غزارة ما كتبه المستشرقون وأهمية ما طرحوه في تشكيل الوعي الغربي بشأن نبي الإسلام صلوات الله عليه فإننا سنحاول في هذا المقال التركيز على نموذجين من الكتابات الاستشراقية في السيرة النبوية وهما لستانلي بول ومونتجمري، ومن خلالهما نتبين الإشكاليات المعرفية الاستشراقية في التعامل مع السيرة النبوية.
السيرة النبوية في كتابات ستانلي بول
يعد المستشرق البريطاني ستانلي بول أحد المستشرقين المرموقين في القرن العشرين، وله تآليف عديدة حول العرب والإسلام، وقد تناول سيرة النبي محمد بالتحليل في دراسة أعدها ونشرتها مجلة Islamic Review عام 1956 أي عقب وفاته بأكثر من عقدين.
وفي هذه الدراسة يغاير بول منهج المستشرقين الأوائل الذين درسوا سيرة النبي محمد مثل إيجانس جولدتسيهر والذين عمدوا إلى تشويه صورة النبي وتصويره على أنه إنسان يعاني نوبات صرعية وشهوات جسمانية تدفعه إلى الإفراط في الزواج، أما ستانلي فيبدو أكثر اعتدالا وحيادية فيفتتح دراسته بالقول أنه لا يسع المرء إلى أن يشير إلى كون النبي إنسان متسامح مع أعدائه فقد صبر على كيد اليهود والمنافقين في المدينة، ودخل مكة دون إراقة دماء معلنا العفو عمن حاربه وناصبه العداء طيلة ثمانية عشر عاما، مستخلصا من ذلك إلى أن القوة لم تكن جزءا من طبيعته وتكوينه.
ويركز ستانلي بول في دراسته على تناول الصورة النمطية للنبي الأكرم في الكتابات الاستشراقية، فيناقش المسائل الشائكة المتعلقة بشهوانية النبي، وما قيل عن انتشار الإسلام بالسيف، وهل هو نبي موحى إليه من الله، ورغم ما يشاع عن اعتداله وإنصافه للإسلام فإننا نعتقد أن بول لم يذهب بعيدا في هذه المسائل فلم ينسف هذه المقولات الاستشراقية وإنما خفف فقط من غلوائها.
ففي مسألة الشهوانية افترض أنها مسألة محسومة مبدئيا “فعواطف الرجال في البلاد الحارة ليست كعواطف الرجال في الشمال البارد” ولكن هذا لا يعني أن النبي كان شهوانيا فإن تقشفه في طعامه وحصيره القاسي الذي ينام عليه وتعبده بالليل شواهد تجعله أقرب للراهب، وأما زيجاته فقد كانت مدفوعة إما بعوامل إنسانية بعد سقوط بعد الأزواج في معارك وتركهم زوجاتهن دون حماية، أو بعوامل سياسية للتأليف بين الأحزاب المختلفة، وهو لا يكتفي بهذا لكنه يضيف سببا ثالثا معتبرا إياه أقوى الأسباب وراء زواج النبي ألا وهو “رغبته الطبيعية أن يكون له ابن ذكر يتبع خطوات أبيه ويتابع عمله”.
وأما مسألة انتشار الإسلام بالسيف وميل النبي إلى العنف، ولماذا انتشر الإسلام في فترة وجيزة ولم استمر يجتذب الأنصار، فهو يناقشها مستندا إلى حجة توماس كارلايل “في أول الأمر لابد من نشر كلمتك”، والتي يمكن تأويلها أن النبي بعد أن ملك أفئدة أعداد ضخمة من البشر جنح إلى العنف في مرحلة تالية، ورغم ذلك فإنه لا يجد تعليلا لذلك الانتشار الذي ظل مصاحبا الإسلام قرونا حتى أنه لم يغادر وطنا دخله – عدا اسبانيا التي أخرج منها عنوة- إلا القول أن “هناك أمرا في هذا الدين هو سر ثباته واضطراده وسطوته على جزء كبير من سكان الأرض” لكنه لا يحدد ماهية هذا الأمر ولا يرجعه إلى العقيدة الإسلامية.
وأما قضية النبوة فهو لا يخالف فيها رأي المستشرقين السالفين حيث يعتقد أن محمدا قد آمن في نفسه إيمانا راسخا بأنه رسول موحى إليه، وأن تصوره عن الألوهية ليس وحيا وإنما هو تصور خاص لم لم يخرج عما فهمه عقل الساميين دائما من كون الإله قادر على فعل كل شيء، وعليم بكل أمر، ولا يظلم الناس شيئا، وأما القوة فهي من أهم صفاته العلية لكنها مقرونة دوما بالرحمة والغفران. وبهذا الفهم استطاع محمد “إيجاد الشكل الوحيد من التوحيد الذي يلائم كل الطوائف الكبيرة في العالم الشرقي”، حيث لم تستطع المسيحية قط أن تهيمن على الشرق بفعل رؤيتها التثليثية للإله.
السيرة النبوية في كتابات مونتجمري وات
درس المستشرق البريطاني وات السيرة النبوية في كتابيه ” محمد في مكة” و “محمد في المدينة” وقدم خلالهما رؤية وصفت بأنها شاملة ولاقت تقديرا كبيرا ليس في الغرب وحده وإنما في الشرق حيث ترجم كتابيه عدة مرات إلى اللغة العربية.
أشار مونتجمري وات في مقدمة كتابه محمد في مكة إلى منهجه أو ما أسماه (standpoint) في كتابة السيرة، موضحا أن دراسته موجهة إلى المؤرخين بالأساس، وأنه سيلتزم بالحياد في القضايا المختلف بشأنها بين الإسلام والمسيحية، وبما يمليه عليه قواعد البحث التاريخي التي تقتضيه ألا يرد أو يدحض أيا من مبادئ الإسلام الرئيسية. غير أن هذه لم تكن جميعها معالم المنهج لديه فقد استنبط عبد الله النعيم في كتابه الاستشراق في السيرة النبوية بعضا من معالم منهجه ومنها:
أولا: منهج التأثير والتأثر، ويعني به تأثر الإسلام بالديانات السماوية في الجزيرة العربية، وقد حدث ذلك عبر ورقة ابن نوفل وبحيرا الراهب اليهودي، وهذا التأثر يبدو جليا في توجه المسلمين في صلاتهم نحو القدس، وصيام عاشوراء، وصلاة الجمعة، وتحليل طعام أهل الكتاب، وهذا التأثر يحمل على الاعتقاد أن الإسلام ليس إلا مزيج ملفق من الديانتين اليهودية والمسيحية، وأن “الرسول قد صاغه على شاكلة الدين الأقدم”.
ثانيا: التأويل المادي للنبوة والمعجزات النبوية، وهي معلم آخر من معالم المنهج لدى مونتجمري وات ويشاركه فيه عدد لا بأس فيه من المستشرقين، فهو يعلق على واقعة شق الصدر بالقول “إن هناك العديد من القصص ذات الطابع الديني يكاد يكون من المتيقن بأنها ليست حقيقة من وجهة نظر المؤرخ العلماني”.
أما نبوته صلوات الله عليه فهي ليست حقيقة واقعية وإنما هي محض تخيل من الرسول، إذ هناك ما يؤكد من الناحية التاريخية نزول جبريل بالوحي عليه، وهذا الإنكار للنبوة والوحي يؤكده قوله “إن القول بأن محمدا كان صادقا – في ادعائه النبوة- لا يعني أن القرآن وحي وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن محمدا كان يعتقد أن القرآن ينزل عليه من الله، وأن نؤمن في ذات الوقت أنه كان مخطئا”، وهو يرجع مصدر الوحي المحمدي إلى “اللاوعي الجماعي” الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أم المسيحية أم اليهودية، وهو يختم رأيه في مسألة النبوة بالقول أن النبي صلى الله عليه وسلم “رجل تجسد فيه التخيل الخلاق حتى الأعماق فاستطاع أن ينتج أفكارا وثيقة الصلة بقضية الوجود الإنساني”.
ثالثا: التفسير الاقتصادي للغزوات والفتوحات، فيذكر مونتجمري أن مؤرخ القرن العشرين ينبغي أن يسأل أسئلة كثيرة عن الجذور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية للحركة التي بدأها محمد صلى الله عليه وسلم من غير أن يتجاهل جوانبها الأيديولوجية، وهو يفسر حركة الفتوح الإسلامية انطلاقا من العامل الاقتصادي، ويذهب أنها جاءت كرد فعل على المشكل الاقتصادي الذي ظهر في عهد النبوة والمتمثل في زيادة السكان بفعل توقف الحروب القبلية، فكان هناك ضرورة للبحث عن متنفس للطاقة يستطيع في ذات الوقت أن يحقق موارد مالية، وبفعل هذا اندفع المسلمون منذ العهد النبوي في حركة فتوح خارجية لتأمين الرفاهية الاقتصادية.
استخلاصا مما ذهب إليه المستشرقان ستانلي بول ومونتجمري وات يمكن القول أن المنهج الاستشراقي في التعامل مع السنة النبوية قد تميز بعدد من الخصائص المميزة؛ نفي النبوة عن النبي محمد وإنكار ظاهرة الوحي، والتأكيد على أهمية التأثيرات اليهودية والمسيحية ونفي الخصوصية عن دين الإسلام، والتركيز على الجانب المادي السياسي والاقتصادي في السيرة النبوية وتهميش الإصلاحات الاجتماعية والتربوية والفكرية الأخرى.