مدار الساعة - لم يعد «التجنيس في الملاعب الرياضية» مجرد ظاهرة محدودة تقتصر على بعض اللاعبين المميزين في كرة القدم، بل امتدت إلى الألعاب الأخرى، حتى أضحى «اللعب بالتجنيس» وسيلة وحيلة للفوز بالبطولات.
هي ظاهرة تعتمد على مبدأ «اللعب لمن يدفع أكثر»، الأمر الذي منح بعض الدول فرصة الاستعانة بفرق كاملة لتمثيل منتخباتها في المحافل الدولية والعالمية، مبررة ذلك بأن «اللعب بالتجنيس» شراكة بين اللاعب ومن يمثله، فهو يحقق طموحاته بالتواجد الدولي والحياة الأفضل، بعيداً عن منتخب وطنه الأصلي، فيما يرى من يستعين به أن التاريخ لن يتوقف كثيراً عند الأسماء، بل سيذكر صاحب اللقب فقط.
الإمارات والسعودية.. تُعَبِّدان الطريق لتجربة نموذجية
تطرقنا في الحلقة الأولى، لنماذج مختلفة من الدول العربية في التجنيس الرياضي، فيها من السلبيات والإيجابيات، ما يستحق الوقوف عنده لوضع الحلول المناسبة، والكيفية التي تسهم في تلافي الثغرات والتعامل مع التجنيس بمفاهيمه الصحيحة، لا سيما وأنه أصبح واقعاً تتعامل معه المنظمات والاتحادات الدولية بمنتهى الشفافية من خلال سن القوانين واللوائح التي تساعد جميع الأطراف في تحقيق الأهداف النبيلة المستمدة من ميثاق العمل الأولمبي، لم ينف المسؤولون في بعض الدول التي حدث فيها تشويه للتجنيس الرياضي، خطأ استغلال الثغرات، بل وضعوا الحلول المناسبة التي تحد من تزايد الخروقات، وأجمعت الآراء على ضرورة ظهور فكر جديد في التعامل مع مسألة التجنيس.
حلول مناسبة
وفي الحلقة الثانية لهذا الملف «اللعب بالتجنيس» ركزنا على الحلول الكفيلة بجعل التجنيس مصدر فخر للرياضيين ومحفز لأبناء البلد، والنظر للجانب المضيء، استشرافاً لمستقبل أفضل، ومن الجدير هنا، الإشارة بوضوح للمنحى الذي ذهبت له كل من الإمارات والسعودية في وضع خارطة تستند إليها الحلول النموذجية في المستقبل القريب من خلال التعامل مع الرياضيين أصحاب الموهبة والكفاءة من المقيمين في البلدين في المسابقات الرياضية الرسمية، فرغم أن هذه الفئة من الرياضيين تواصل نشاطها الرياضي بجنسية بلادها الأصلية، إلا أن دمجها في التنافس الرسمي، يعد آلية واضحة المعالم تُسهل عملية البحث في اختيار الرياضي الكفء والموهوب الذي يستحق التجنيس وفقاً لقوانين كل بلد ووفقاً للوائح الدولية التي من شروطها اندماج الرياضي في مجتمع البلد الذي يريد تجنيسه، فالإمارات والسعودية حققتا هذا الشرط الدولي بدرجة الامتياز بعد قرارهما التاريخي بأن يعامل المقيم، معاملة المواطن في النشاط الرياضي.
زيادة القاعدة
وزيادة على تحقيق هذا الشرط الدولي المهم، فالقرار الإماراتي السعودي، زاد من قاعدة الممارسين للرياضة في البلدين، لينعكس ذلك في قوة التنافس وتطوير مهارة وإمكانيات اللاعبين الوطنيين.
النموذج الإماراتي السعودي، يقارب إلى حد كبير ما بدأته دول العالم الأول التي يُقتدى في التجنيس الرياضي بشكله الصحيح، فالرياضي في تلك الدول، يتم دمجه أولاً في المجتمع ومن بعد ذلك تأتي مرحلة تجنيسه، ويبرز هنا النموذج الفرنسي الذي حاولت بعض الدول العربية الاستناد إليه في تبريرها للتجنيس، وهو تبرير مخل إلى حد كبير، ففرنسا التي أحرز منتخبها لكرة القدم كأس العالم مرتين بتشكيلة يغلب عليها عنصر اللاعب المجنس، لم تأت في حقيقة الأمر بلاعبين جاهزين يمثلون منتخبها، فالمشوار بدأ بالنسبة لهؤلاء اللاعبين في أعمار مبكرة، وكثير منهم ولد وتربى في فرنسا، ولا يعرفون شيئاً عن بلاد آبائهم أو أمهاتهم، وهي حالة شبيهة بأبناء المقيمين في الخليج، وبالتالي تصبح الأصوات المطالبة في كل من الإمارات والسعودية، بالتجنيس، منطقية لكون المسألة يُراعى فيها القوانين المحلية والدولية معاً.
توطين وليس تجنيساً
نموذج اللاعب المقيم، يمكن تسميته بـ «التوطين» أكثر منه التجنيس وهو يختلف تماماً عن التجنيس الرياضي، فالشخص يحصل على الجنسية في بلد نشأ وتربى فيه يختلف عمن يتم استقطابه فقط من أجل الرياضة، فيكون حريصاً على الدفاع، لهذا السبب لا يمكن المقاربة بين التجنيس «المشوه» الذي تناولنا نماذج منه في الحلقة الأولى، وبين التجنيس في الدول الأوروبية مثل فرنسا وألمانيا وسويسرا وبلجيكا وغيرها من الدول التي سبقت الدول العربية في التجنيس ووضعت له قوانين يُعتد بها.
القرقاوي: حان وقت الاستفادة من اللوائح الدولية
أكد اللواء «م» إسماعيل القرقاوي رئيس الاتحادين العربي والإماراتي لكرة السلة، أن الوقت حان للتعامل مع التجنيس الرياضي بكل شفافية والاستفادة منه وفقاً للوائح الدولية التي نظمته، ودلل على ذلك بما قرره الاتحاد الدولي لكرة السلة «فيبا» بموافقته لجميع المنتخبات بتجنيس لاعب أجنبي وفق شروط محددة، مشيراً إلى أن كثيراً من الدول العربية استثمرت هذا القرار، وضرب مثلاً ببطولة المنتخبات الخليجية الأخيرة التي أقيمت في الكويت، حيث خسر المنتخب الإماراتي وودع البطولة في الدور نصف النهائي أمام نظيره البحريني الذي تفوق بفضل وجود لاعب أمريكي تم تجنيسه وفقاً للشروط الدولية.
وقال القرقاوي إن كرة السلة من الألعاب التي تحتاج لنوعية مواصفات خاصة للاعبين فيما يخص الطول والبنية الجسمانية، وقد لا تتوفر هذه المواصفات عند بعض المنتخبات، ولذلك ارتأى الاتحاد الدولي تقريب الفوارق وتقوية التنافس بمنح الفرصة لتجنيس لاعب واحد.
وأشار القرقاوي إلى أن التجنيس يجب أن يُرحب به وفقاً للشروط وبعيداً عن خرق اللوائح، فالاتحاد الدولي لكرة السلة عندما سمح بتجنيس لاعب واحد، رهن ذلك بأن يكون التجنيس في عمر مبكر «16 سنة» كي يضمن اندماج اللاعب في مجتمع البلد، أو أن يكون اللاعب مقيماً في البلد أو ولد فيه، وجميعها شروط مناسبة ومنطقية تتسق مع قوانين البلد.
وأوضح رئيس الاتحادين العربي والإماراتي لكرة السلة، أن التعامل مع التجنيس باستقطاب لاعبين جاهزين يشكلون الأغلبية في منتخب البلد، أمر مرفوض، فليس مقبولاً تجنيس لاعب لا يعرف لغة البلد ولا طبائعه ولم يتعايش فيه ومنحه الجنسية، فكل شيء محكوم بضوابط والاندماج في مجتمع البلد أحد الضوابط ومنصوص عليها في اللوائح الدولية.
4
وجد القرار الذي صدر في المملكة العربية السعودية بداية ديسمبر الحالي بمنح الجنسية السعودية للمتميزين والمبدعين من مختلف دول العالم، صدى واسعاً، وتصدر نجوم كرة القدم، قائمة ترشيحات المتفاعلين في وسائط التواصل الاجتماعي، إذ تسابقت جماهير الأندية السعودية في ترشيح نجوم فرقهم الأجانب لحمل الجنسية السعودية، واتفقت الآراء حول 4 لاعبين حيث تقدَّم أحد المغردين في موقع «تويتر»، باقتراح تجنيس تحت الوسم «#السعوديه_تجنس المبدعين» ذكر فيه «نور الدين مرابط وعبد الرزاق حمد الله متميزان بالرياضة نتمنى تجنيسهما فهما يستحقان»، في إشارة لنجمي نادي النصر السعودي.ونشرت مغردة أخرى من عشاق الهلال، صورة لنجم فريقها الفرنسي بافيتيمبي غوميز، وقالت في تعليقها: «هذا وبجدارة، والسومة ومرابط وحمد الله ودي يتجنسون».
«كاف» ضد «الاسترقاق»
دفع تجنيس اللاعبين الأفارقة في أوروبا، الاتحاد الأفريقي لكرة القدم «كاف» لفتح خط مع الاتحاد الدولي لكرة القدم «الفيفا» للحد فيما أسماه من «استرقاق اللاعبين» باعتبار أن اللاعبين يتم تهجيرهم خصيصاً إلى أوروبا لتجنيسهم في أعمار صغيرة، وتم التعامل مع المسألة بشيء من الخطورة،
حيث حدث التحايل بإحضار اللاعبين مع أولياء أمورهم قبل بلوغهم 18 سنة وبعد بلوغهم السن القانونية للتعاقدات «18 سنة» تبدأ عملية تحولهم لجنسية أخرى، وأبرز هؤلاء اللاعبين من غرب وشمال أفريقيا نظراً لسهولة انتقالهم، واتجهت الظاهرة الآن إلى شرق ووسط أفريقيا باستقطاب لاعبين صغار من إثيوبيا وكينيا وتنزانيا وتشاد.
رياضيون بلا حدود
في بحث مشترك، للباحثين اليابانيين ناوكي تشيبا وأوسامو إبيهارا وشينجي مورينو، أشاروا إلى ظهور مفهوم «رياضيون بلا حدود» عام 1993 في اليابان، وأعادوا ذلك بشكل مباشر إلى اختلاط بلادهم بنظام العولمة، حيث قالوا «لم يكن من الممكن تخيل قبول اليابانيين التجنيس الرياضي بسهولة، فهم أصحاب نزعة قوية تجاه الهوية الوطنية، لكن اختلاط كافة مستويات البلاد بالعولمة الحديثة، والنظر إلى الرياضة كصناعة ترفيه ساعد على قبول التجنيس في رياضات عديدة».
التجربة المجرية
يقول الصحفي المجري توماس دوتزي عن تجربة بلاده في التجنيس الرياضي: «لقد تغير شكل الاقتصاد العالمي ووسائل الاتصال والتواصل، وهذا أثر على نحو ثوري على نظرة الناس إلى مفهوم الجنسية الرياضية، فقد باتت مثلها كالحصول على الجنسية لغايات أخرى، يحصل عليها من يستحق ذلك، ويعتبر المجريون النجاح الرياضي جزءاً من النجاح الوطني، خصوصاً فيما يتعلق بالرياضات الأساسية بالنسبة لهم مثل كرة الماء».
طه الطوخي: لا للكم.. نعم للنوعية
أيد المدرب المصري طه الطوخي، التعامل مع التجنيس الرياضي على مستوى الدول العربية بتروٍّ وتوازن، واختيار نوعية محددة من اللاعبين الموهوبين الذين يشكلون الإضافة ويحدثون الفوارق، رافضاً في نفس الوقت الميل لتكوين منتخب بالكامل من لاعبين مجنسين مهما كانت المبررات، وقال المدرب الذي أحرز أول لقب في دورات كأس الخليج مع منتخب الكويت سنة 1970، في تصريحات لـ «البيان الرياضي»، إن تجنيس عدد كبير من اللاعبين في منتخب واحد، أمر غير منطقي ولا يخدم مفهوم الرياضة، لأن ذلك يقتل الحماس في نفوس أبناء البلد ويجعل المنتخب يعتمد تماماً على إحضار لاعبين لتجنيسهم بين الحين والآخر، بينما الأفضل التوازن في هذه العملية بوضع خطط تنمي إمكانيات لاعبي البلد مع إضافة عدد محدود من اللاعبين المجنسين بمواصفات خاصة، شريطة دمجهم في المجتمع ليكونوا جزءاً منه حتى يكتسبوا الروح الوطنية ويستفيد منهم زملاؤهم لاعبي البلد وينعكس ذلك على الأجيال الأخرى ليتخذوهم قدوة لهم.
وقال الطوخي، إن من حق أي بلد عربي، أن يختار ما يراه مناسباً، ولكن من الناحية الفنية، تكون الفائدة أكبر عندما يقل عدد المجنسين في منتخب البلد، والفائدة هنا مقصود بها المدى البعيد للمسيرة الرياضية، فليس معقولاً الاعتماد فقط على مجموعة جاهزة من اللاعبين في المنتخب في كل البطولات، حتى وإن كانوا متميزين، فتعليم الأجيال من الأمور المهمة في الرياضة، فاللاعب المتميز مثل المدرب يجب أن يتعلم منه زملاؤه ويتعلم منه اللاعبون الصغار.
الإدريسي: الرياضة صناعة قبل أن تكون فوزاً بالألقاب
أوضح الإعلامي بدر الدين الإدريسي، رئيس الجمعية المغربية للصحافة الرياضية، أن عملية التجنيس الرياضي قديمة وجديدة، بمعنى أنها نشأت في أوروبا أولاً ثم انتقلت للدول العربية التي أدركت أهمية إحراز الألقاب وتحقيق الإنجازات، ورأت بعض هذه الدول ضرورة السباق نحو المواهب الرياضية للظفر بها اختصاراً للطريق نحو تحقيق الإنجازات، فأصبح هناك نوع من التسابق الذي يفتقد الرؤية بعيدة المدى، فالفرق كبير بين البطل الجاهز وصناعة البطل.
ويضيف الإدريسي: يجب علينا أن نؤمن بأن الرياضة صناعة قبل أن تكون فوزاً بالألقاب فقط، والصناعة تعني استثمار الموارد البشرية في البلد، وبالتالي فإن التركيز على الأبطال الجاهزين فيه نوع من إهدار المال والطاقات الوطنية، ومحاولة تبرير ذلك بالشكوى من القاعدة السكانية لبعض الدول غير صحيح ويمكن إثبات ذلك بنماذج حقيقية، فهناك دول صغيرة مساحة ومحدودة السكان اعتمدت على مواردها البشرية في صناعة أبطال في مجال الرياضة دون الحاجة للاعب الجاهز المجنس، والقاعدة السكانية إن كانت كبيرة أو محدودة ليست سبباً في التميز الرياضي، وإلا كانت الصين والهند المسيطرين على كل الإنجازات في العالم.
وقال الإدريسي: لست ضد التجنيس الرياضي، ولكن يجب أن يكون وفق معايير تراعي صناعة البطل بحيث يتم تجنيس مواهب يتم تكوينها وتشكيلها داخل البلد، وتكون محفزة وملهمة لأبناء البلد، والتجنيس بمفهومه الصحيح موجود عالمياً ولكن وفق توظيف سليم، ولذلك قامت المؤسسات والمنظمات الدولية بوضع لوائح وشروط، راعت فيها أهمية صناعة البطل في البلد الذي يمنحه الجنسية.