مدار الساعة - نهضت الرسالة النبوية في مرحلتيها المكّية والمدنية على أسس وقيم روحية وخلقية ونفسية عميقة، سار على هديها الصحابة والخلفاء والتابعين وقادة المسلمين في طريقهم الدعوي، واقتدوا بها في فتوحاتهم الواسعة في جميع الأصقاع الكونية، ونشروا رسالة الدين الحنيف بروح من التسامح والأخوة، وفي إطار حفظ المصالح والمفاسد العامة والخاصة، والتعرف على نواميس وسنن بناء الأمم والحضارات، بهدف النهوض بحضارة متكاملة للإنسانية جمعاء. فكيف رسخ النبي الكريم المنظومة القيمية في المرحلة المكية من الدعوة؟ وما أبرز معالم تلك المنظومة المبكرة؟
إنَّ أوَّل شروط التعامل المنهجيِّ السليم مع السُّنن الإلهيَّة، والقوانين الكونيَّة في الأفراد، والمجتمعات، والأمم، هو أن نفهم، بل نفقه فقهًا شاملًا رشيدًا هذه السُّنن، وكيف تعمل ضمن النَّاموس الإلهيِّ، أو ما نعبر عنه بـ «فقه السُّنن»، ونستنبط منها على ضوء فقهنا لها القوانين الاجتماعيَّة، والمعادلات الحضاريَّة.
كانت حركة الإسلام الأولى؛ الَّتي قادها النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في تنظيم جهود الدَّعوة، وإقامة الدَّولة، وصناعة الإنسان النموذجيِّ الرَّبانيِّ الحضاريِّ خاضعة لسنن وقوانين قد ذكر بعضها بنوعٍ من الإيجاز؛ كأهمِّيَّة القيادة في صناعة الحضارات، وأهمِّيَّة الجماعة المؤمنة المنظَّمة في مقاومة الباطل، وأهمِّية المنهج الَّذي تستمدُّ منه العقائد، والأخلاق، والعبادات، والقيم، والتَّصوُّرات. ومن سنن الله الواضحة فيما ذكر سنَّة التَّدرُّج، وهي من سنن الله تعالى في خلقه، وهي من السُّنن المهمَّة الَّتي يجب على الأمَّة أن تراعيها، وهي تعمل للنُّهوض، والتَّمكين لدين الله عزَّ وجلَّ. ومنطلق هذه السُّنَّة: أنَّ الطَّريق طويلٌ ـ لا سيَّما في هذا العصر الَّذي سيطرت فيه الجاهليَّة، وأخذت أُهْبَتَها، واستعدادها ـ كما أنَّ الشرَّ، والفساد قد تَجَذَّر في الشُّعوب، واستئصاله يحتاج إلى تدرُّج.
بدأت الدَّعوة الإسلاميَّة الأولى متدرجةً، تسير بالنَّاس سيرًا دقيقًا، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء، والتَّأسيس، ثمَّ مرحلة المواجهة والمقاومة، ثمَّ مرحلة النَّصر والتَّمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقتٍ واحدٍ، وإلا كانت المشقَّة، والعجز، وما كان يمكن كذلك أن تقدم واحدةٌ منها على الأخرى، وإلا كان الخلل، والإرباك.
وذلك هو المنهج الَّذي سلطه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهليَّة إلى الحياة الإسلاميَّة، فقد ظلَّ خلال ثلاثة عشر عامًا في مكَّة، كانت مهمَّته الأساسيَّة فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدَّعوة، وتكاليف الجهاد؛ لحمايتها، ونشرها في الافاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكِّيَّة مرحلة تشريع بقدر ما كانت مرحلة تربية وتكوين.
حيث كانت المسافة بين الإسلام يوم جاء وبين واقع النَّاس في الجزيرة العربيَّة، وفي الأرض كافَّةً، مسافةً هائلةً، وكانت النُّقلة الَّتي يريدهم عليها بعيدةً، وكانت تساند الواقع أحقابٌ من التَّاريخ، وأشتاتٌ من المصالح، وألوانٌ من القوى، وقفت كلُّها سدّاً في وجه هذا الدِّين الجديد، الَّذي لا يكتفي بتغيير العقائد، والتَّصوُّرات، والقيم، والموازين، والعادات، والتَّقاليد، والأخلاق، والمشاعر؛ إنَّما يريد كذلك أن يغيِّر الأنظمة، والأوضاع، والشَّرائع، والقوانين، كما يريد انتزاع قيادة البشريَّة من يد الطَّاغوت، والجاهليَّة؛ ليردَّها إلى الله، وإلى الإسلام.
إنَّ التَّغيير الَّذي قاده النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنَّفس البشريَّة، وصنع منها الرِّجال العظماء، ثمَّ انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع، حيث نقل النَّاس من الظُّلمات إلى النُّور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التَّخلُّف إلى التَّقدُّم، وأنشأ بهم أروع حضارةٍ عرفتها الحياة.
لقد قام النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ـ بمنهجه القرآني ـ بتغيير في العقائد، والأفكار، والتَّصوُّر، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه؛ فتغيَّر ما حوله في دنيا النَّاس، فتغيَّرت المدينة، ثمَّ مكَّة، ثمَّ الجزيرة، ثمَّ بلاد فارس، والرُّوم في حركةٍ عالميَّةٍ تسبِّح، وتذكر خالقها بالغدوِّ، والآصال. فكان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكيِّ بجانب ترسيخ المنظومة الفكرية والعقدية بشتَّى الأساليب؛ فغمرت قلوبهم معاني الإيمان، وحدث التحول العظيم الذي انعكس على العالم بأسره.
وقد آتت ثمار تربية الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه المباركة؛ فتطهَّر الصَّحابة في الجملة ممَّا يضادُّ توحيد الألوهيَّة، وتوحيد الرُّبوبيَّة، وتوحيد الأسماء والصِّفات، فلم يحتكموا إلا إلى الله وحده، ولم يطيعوا غير الله، ولم يتَّبعوا أحداً على غير مرضاة الله، ولم يحبُّوا غير الله كحب الله، ولم يخشوا إلا الله، ولم يتوكَّلوا إلا على الله، ولم يلتجئوا إلا إلى الله، ولم يدعوا دعاء المسألة والمغفرة إلا لله وحده، ولم يذبحوا إلا لله، ولم ينذروا إلا لله، ولم يستغيثوا إلا بالله، ولم يستعينوا ـ فيما لا يقدر عليه إلا الله ـ إلا بالله وحده، ولم يركعوا، أو يسجدوا، أو يَحُجُّوا، أو يطوفوا، أو يتعبَّدوا إلا لله وحـده، ولم يُشَبِّهُوا الله لا بالمخلوقات، ولا بالمعدومات؛ بل نزَّهوه غاية التَّنزيه، وأثبتوا له ما أثبته لنفسـه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريفٍ، أو تعطيلٍ، أو تأويلٍ، ولم يخافوا خوف السِّرِّ إلا من الله وحده، ولم يصرفوا الطَّاعة المطلقة إلا لله وحده، ولم يشركوا أحداً من خلقه في خاصِّيَّةٍ من خصائص ربوبيَّته؛ كالإحياء، والإماتة، والرِّزق، والعلم المحيط، والقدرة الباهرة، والقيُّوميَّـة، والبقاء المطلق، والتَّحليل، والتَّحريم، ونحو ذلـك؛ جعلنا الله ممَّن يحقِّق التَّوحيد قولاً، وعملاً، واعتقاداً، إنَّه وليُّ ذلك، والقادر عليه.
إنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم كان يربِّي أصحابه على السَّعي لمرضاة الله تعالى حتى يدخلهم جنَّاته العظيمة، فكان يصف لهم الجنَّات من خلال المنهج القرآني، حتَّى لكأنَّ الصَّحابي يرى الجنَّة معروضةً أمامه في تلك اللحظة، وينفعل بها كأنَّه يراها في عالم العيان بالفعل، وليست أمراً يتصوَّر حدوثه في المستقبل، وهذا من الإعجاز البياني في التعبير القرآني إلى حدٍّ تصبح الاخرة ـ التي لم تأت بعد ـ كأنَّها الحاضر الَّذي يعيشه الإنسان، ويصبح الحاضر الَّذي يعيشه بالفعل كأنَّه ماضٍ سحيقٌ تفصله عن الإنسان آمادٌ، وأبعاد.
كما كان القرآن المكيُّ يربِّي المسلم على الخوف من عقاب الله، ويبيِّن للصَّحابة: أنَّ العذاب في الآخرة حسِّيٌّ ومعنويٌّ، وفي خطاب القرآن، وتوضيح النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم للصَّحابة حقيقةَ النَّار ما يجعل الصَّحابيَّ يستجيب لأوامر الله ويجتنب نواهيه، فكان الصَّحابي يستحضر في مخيِّلته صورة الجنان، والنِّيران، ويستعدُّ للموت الَّذي هو اتٍ لا محالة، وأنَّه سوف يُسأل في وَحْدَته لا محالة، وأنَّ القبر إمَّا روضةٌ من رياض الجنَّة، أو حفرةٌ من حفر النِّيران، فالصَّحابي حين يستحضر في نفسه كلَّ هذا؛ فإنَّ قلبه يستشعر خوف الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ومراقبته في السِّرِّ والعلن بل
إنَّ هذا التَّصُّور والفهم العميق لحقيقـة القيم الكبرى ومعرفة الآخرة وحقيقـة الجنَّة والنَّار، له أثره على العاملين لنهضة الأمَّة، واستعادة مجدها، وعزَّتها، وكرامتها، وهو أصلٌ عظيمٌ في بناء التَّصوُّر العقديِّ لأفراد الأمَّة، سار على نهجه النبي الكريم وأتباع الرسالة المكية وتركوها لأتباعهم واضحة على مر العصور اللاحقة.
حيث كان للفهم الصَّحيح والاعتقاد الرَّاسخ في قلوب الصَّحابة لحقيقة القضاء والقدر ثمارٌ نافعةٌ ومفيدةٌ، عادت عليهم بخيرات الدُّنيا والاخرة؛ فمن تلك الثمرات:
1 ـ أداء عبـادة الله عزَّ وجلَّ؛ فالقدر ممَّا تَعَبَّـدَ الله ـ سبحانـه وتعالى ـ الأمَّة بالإيمان به.
2 ـ الإيمان بالقدر طريق الخلاص من الشِّرْك؛ لأنَّ المؤمن يعتقد: أنَّ النَّافع والضَّار، والمعزَّ، والمذلَّ، والرافع، والخافض، هو الله وحده سبحانه وتعالى.
3 ـ الشَّجاعة والإقدام: فإيمانهم بالقضاء والقدر جعلهم يوقنون: أنَّ الاجال بيد الله تعالى، وأنَّ لكل نفسٍ كتاباً.
4 ـ الصَّبر والاحتساب، ومواجهة الصِّعاب.
5 ـ سكون القلب، وطُمَأْنِينَـةُ النَّفس، وراحة البال: فهذه الأمور من ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر، وهي هدفٌ منشودٌ، فكلُّ مَنْ على وجه البسيطة يبتغيها، ويبحث عنها، فقد كان عن الصَّحابة من سكون القلب، وطُمأْنِينَة النَّفس ما لا يخطر على بالٍ، ولا يدور حول ما يشبهه خيالٌ، فلهم في ذلك الشَّأن القِدْحُ المُعَلَّى (النَّصيب الوافر) والنَّصيب الأوفى.
6 ـ عزَّة النَّفس والقناعة والتَّحرُّر من رِقِّ المخلوقين: فالمؤمن بالقدر يعلم: أنَّ رزقه بيد الله، ويدرك أنَّ الله كافيه وحسبه ورازقه، وأنَّه لن يموت حتَّى يستوفي رزقه، وأنَّ العباد مهما حاولوا إيصال الرِّزق له، أو منعه عنه؛ فلن يستطيعوا إلا بشيءٍ قد كتبه الله، فينبعث بذلك إلى القناعة، وعزَّة النَّفس، والإجمال في الطَّلب، وترك التكالب على الدُّنيا، والتَّحرُّر من رِقِّ المخلوقين، وقطع الطَّمع ممَّا في أيديهم، والتوجُّه بالقلب إلى ربِّ العالمين.
ولم تقتصر تربية الرَّسول لأصحابه على تعليمهم أركان الإيمان السِّتَّة المتقدِّمة؛ بل صحَّح عندهم كثيراً من المفاهيم والتَّصوُّرات، والاعتقادات عن الإنسان، والحياة، والكون، والعلاقة بينهما؛ ليسير المسلم على نورٍ من الله، ويدرك هدف وجوده في الحياة، ويحقِّق ما أراد الله منه غاية التَّحقيق، ويتحرَّر من الوهم والخرافات.
وقد بيَّن القرآن الكريم بوضوحٍ: أنَّ «حقيقة الإنسان ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد، وهو الخلقة الأولى من طينٍ، حين سوَّاه، ونفخ فيه الرُّوح، والأصل القريب المستمرُّ، وهو خلقه من نطفةٍ»[(417)]، وقال الله تعالى في ذلك عن نفسه: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ *ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ *ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ *} [السجدة: 7 ـ 9]، والآيات في هذا المعنى كثيرةٌ.
وتحدَّث القرآن الكريم عن تكريم الله تعالى للإنسان، وكان لذلك الحديث أثره في نفوس، وعقول، وقلوب الرَّعيل الأوَّل؛ فقد بَـيَّن لهم القرآن الكريم صوراً عديدةً لتكريم الإنسان. وسخَّر الله ـ عزَّ وجل ـ للإنسان ـ تكريماً له ـ ملكوتَ السَّموات؛ بما تشتمل عليه من نجومٍ، وشموسٍ، وأقمار، وجعل في نظامها البديع ما ينفع الإنسان؛ من تعاقب اللَّيل والنَّهار، واختلافٍ في الفصول ودرجات الحرارة ونحو ذلك. قال الله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ *} [النحل: 12]. وكرَّم الله تعالى الإنسان بتفضيله على كثيرٍ من خلقه: قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً *} [الإسراء: 70].
ومن مظاهر هذا التَّكريم الَّذي شعر به الصَّحابة رضي الله عنهم، حصرُ مظاهر شرف الإنسان في العبوديَّةِ لله وحده، وتحريره من عبادة الأصنام، والأوثان، والبشر: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلاَلَةُ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *} [النحل: 36].
يمكن القول: ارتكزت المنظومة القيمية لأتباع الرسالة المكية، وقامت دعوة النبي الكريم وصحبه بناء على خُلُقٍ رفيعٍ وأسلوبٍ جميلٍ في معاملة النَّاس وأهداف فكرية وعقدية مفصلة فيها النذير والبشير وفيها الصعب واليسير لبني البشر جميعًا وإلى يوم يبعثون.