مدار الساعة - تدبر قوله تعالى : (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [سورة اﻷنعام : 147]
ما أروع هذا البيان ! تأمل وتدبر بلاغة الخطاب الدعوي في هذا البيان.
وعندما ننطلق من البيان القرآني في فهم بلاغة الخطاب الدعوي نجده مملؤا بمعان رائعة راقية. يغنينا عن كثير من التنظير وأقوال المفكرين. والأصل هو الانطلاق من بيان التنزيل في معرفة كيفية الخطاب وبلاغته.
والآن لنحلق مع آية الأنعام آنفة الذكر في البيان (فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ)
فلما كان هذا التكذيب خارجا عن دائرة المنطق والمعقول والمكذب به رسول ؛ استعمل الخطاب (إن ) دون غيرها لأنها ترد في سياق الشك دون اليقين ، فكأن البيان يشير أن هذا التكذيب حقه ألا يكون ، وهو مشكوك في حصوله وخارج عن المعقول ، فإن حصل وكان فليكن منك الجواب على النحو المذكور ( فقل ربكم ذو رحمة واسعة )
وفي هذا الخطاب اكتفاء بالتلميح عن التصريح. وهو أسلوب دعوي بديع في التخاطب مع المدعو.
– (فإن كذبوك ) هكذا واكتفى دون تفصيل أو ذكر لمتعلق الكذب منهم، ودون الوقوف كثيرا عند التكذيب .
وهو درس بياني دعوي في عدم الوقوف عند شبه الخصوم ومقولاتهم وأكاذيبهم والتفصيل فيها بقدر ما يكون الإشارة بإيجاز واختصار .
– (فقل ) تلقين له بالرد والقول ، وهنا مكمن الإعجاز. لأن من يزعمون أن هذا القرآن من كلامه البشري ، كيف يتفق منه الخطاب والتلقي في وقت معا. فدل هذا أنه متلق لهذا الخطاب من جهة أخرى يتلقى منها هذا التوجيه والبيان.
وفي هذا بيان أن ينطلق الدعاة في تعاملهم مع خصومهم من تعاليم الوحي لا من أخلاق البشر في ردة الفعل والانفعال.
– (فقل ربكم ) في ذكر الربوبية هنا إشعار إلى معنى دقيق من معانيها يتناسب مع سياق الدعوة هنا ، وهو معنى التربية والعناية والاهتمام ، فهو خالقهم ومربيهم ، وهذا المعنى ينبغي على الداعي استحضاره مع المدعو وإظهار فضل ربوبية الله عليه وهو أمر محسوس ملموس وذلك يقود عند التأمل والفهم إلى الإقرار بالألوهية .
– فربك ذو رحمة واسعة.
– فقل ربي ذو رحمة واسعة
ورحمة الله من صفاته -عز وجل- الموصوف بها في الصفات والأفعال. بل إن إنزال العقوبة والعذاب على المخالفين ضرب من ضروب الرحمة ليرتدع المعتبر فيستقيم على الجادة في الأحوال.
ووصف رحمته بالاتساع بموجب ربوبيته لجميع الخلق. وفي هذا تشويق للمدعو أن يسارع إلى تلمس هذه الرحمات. فإذا كانت رحمته قد اتسعت للمكذبين فلم يعاجلهم بالعقوبة، فهي أقرب ما تكون من المصدقين الطالبين رضاه. (إن رحمة الله قريب من المحسنين). وأسلوب التشويق والترغيب من أهم أساليب الدعوة إلى الله.
(ٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) ولو توقف البيان عند ذكر الرحمة واتساعها لتمادت الأنفس المريضة في الإعراض والتكذيب فكان لابد من التثنية بالترهيب، فقال: (ٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ).
وهذا يتناسب مع أصل الفطرة البشرية في الدعوة برحمة الخطاب والإشفاق ، ومن انحرفت فطرته ولم يجد معه ذاك الخطاب، كان لابد معه من انتقال الخطاب إلى الترهيب بالعذاب.
وهذ البيان يسكب في نفوس الدعاة الطمأنينة والسكينة من تدبير الرب عز وجل لأمور الكون بالحكمة في كل حال ، من رحمة الإمهال أو الأخذ بالبأس والعذاب ، وأنه قد يمد بالإمهال لا الإهمال ، وكل شيء عنده بأجل ومقدار.