مدار الساعة - بقلم باسم النبريص*
لا أعرف لِمَا أتذكّر، في ليل القدس الطويل هذا، هشام شرابي. لم أقرأ أياً من كتبه منذ شهور طويلة. ومع هذا: هو ذا ينبثق، بكامل سمته أمامي.
أتذكّر ذكرياته الشاحبة عن القدس قبل سفره إلى أميركا، في 1947. مكوثه بفندق هنا، ليلةً أو ليلتين، ثم عودته ليافا.
آه يا هشام!
لم ينتقد مثقّف فلسطيني حالنا وأحوالنا، على هذا النحو الجذري، كما انتقدت أنت. لم يتنبّأ أحد بخراب مشروعنا الوطني، كما تنبّأت أنت. لكنها كانت "صرخة في البريّة"، كما تعرف ونعرف.
الآن يا عزيزي: دخل على خط ثقافتنا، قطار الأنجزة. وركبه معظم من كان يُفترض بهم، أن يكونوا حرّاسنا، وحماتنا أمام الحائط الأخير. لم يعد ثمّة نزاهة ولا نبالة ولا أخلاق. مثلما كنت أنت. مثقّفنا الآن في عمومه: تاجر بعينَيْن: عين على مال هذه المؤسّسات المشبوهة، وعين على السفر والترجمة. وبين هذا وذاك، يتنافس ويتقاتل مثقّفو الهزيمة والاستنقاع.
كنت أنت، ذلك الفارس النبيل. وترجّلت، فلم يعد يذكرك غير عارفي فضلك، وحافظي ودّك. تمرّ ذكرى ميلادك، وذكرى رحيلك، فلا تلفت هاتان الذكريَان انتباه أحد. لقد زرعتَ في صحراء الملح، يا هشام!
أنام وثمّة كتلة في حلقي.
ننزل الدرجات، وندخل الباب الشهير. لا جنود بالباب، فنطمئن، وخاصة أخي. السوق مزدحم، وبالكاد تجد لك موطئ قدم لتمشي. الغالبية من المقدسيّين، وقلّة من السيّاح. نلف وندور، ثم نتبضّع أشياء مختلفة: أشتري شوكولا، ومشمشاً جافاً، وسكاكر، ولعب أطفال. ثم أشتري صندلاً وكندرة، ولوحَي قمر الدين، وأشياء أخرى بسيطة. يفعل زملائي نفس الشيء. وأستعجلهم للعودة، حتى لا يفوتنا الموعد.
ضحكوا مستبشرين، ومازحين، فلم يعجبني الجوّ. ظللنا نتسوّق ونتجوّل، حتى اقترب موعد الأذان. فعدنا أدراجنا، وغادرنا أسواق وممرّات البلدة القديمة، صاعدين الدرج الخارجي، ومتوجّهين نحو باص العودة.
ركبنا - أخي وأنا - في باص أخضر، فيما تلكّأ زميلانا. وبعد تحرك الباص رأيتهما يمشيان، مستعجليْن، للحاق بنا.
وصلنا إلى الفندق، فإذا بالمرضى كلّهم، مع مرافقيهم، واقفون في انتظارنا على رصيف الفندق الضيّق. رفضت الذهاب، فأبوا وأصرّوا، فلم أجد بدّاً، وانصعت لرغبتهم.
- سنحتاجك لتقول كلمة!
- إلّا هذه. سأذهب بشرط واحد. عدم الكلام أمام الميكروفون.
- من غيرك قادر على تصفيط الكلام الحلو؟
- البركة فيكم. في فلان الذي وعدكم بالعطية.
لحق بنا زميلانا بعد دقائق، فاستأجرنا باص ركاب، وذهبنا. دقائق وكنا هناك. الفندق قديم، ومن بابه الرئيس دلفنا لقاعة الاحتفالات. إنها قاعة أعراس. أجلسونا هناك على المسرح. كانت القاعة تغصّ بالمدعوّين، وكانوا مئات عدداً. ضحكت لمن حولي: كلوا واحمدوا ربكم ولا تحلموا بشيء!
- يا رجل!
- زي ما بقول لكم.
حماس رائع وبهجة عظيمة. غششتهم بالإجابات، والكثير منهم نال جائزة. لكنّ أجمل طرفة حدثت، حين سأل المذيع عن اسم قرية ناجي العلي. أُم صبحي من بني سهيلا، المرافقة لابنتها الشابة المريضة باللوكيميا، كانت تصرخ فيّ طوال الوقت، أنْ غشّشِني، فقد فازت أم محمد وأم علي من قبلها. فقلت لها:"الشجرة". "الشجرة" يا أم صبحي. لم تنتبه وصرخت فيّ: مالها الشجرة! لم تفهم وطارت عليها الجائزة!
بعد ساعات عدنا مبسوطين وفي مزاج جميل، لم أره من قبل. أعطونا ونحن خارجون بعض الهدايا. شنطة بها صابون وبشكير للاستحمام وعطر وثلاثة دفاتر محاضرات تصلح للطلبة الجامعيّين.
- كفاية عليكم. المهم انبسطّوا، فبارك الله فيهم.
غير أنّ جماعتنا، أو بعضهم، زعلوا ممّا حدث. وانهالوا مزاحاً وتقريعاً على ذاك الشاب الذي وعدهم، مثل وعد أبي عمار بالدولة القريبة، ولم يف بالوعد!
تلجلج الشاب وشعر بالحرج، ثم فرقعت ضحكاتنا ونسينا الموضوع!
أنام، وطيف تلك المقدسية الشابة المتبرّعة بالخدمة علينا، يخايلني. فتاة رقيقة، في العشرين، بذراعين مكشوفتين سمراوين، وبنطلون جينز أسود مع قميص أبيض مفتوح الياقة، وشعر على الكتفين، تتنقلّ بين الطاولات كالفراشة. ما أجمل حديثها. ما أروع ابتسامتها... وما أبهج إيماءاتها كمضيّفة.
جمال مقدسي نادر، يحيل إلى محتدّ عريق ربما. ونبل (ذلك النُبل الذي تتمتع به بعض الوجوه الشابة بالفطرة) ومحبة طافحة لأهل غزة.
قال أحدهم، وكان مجاوراً لي على المائدة: هذه الفتاة جرحت صيامنا، في إشارة إلى ذراعيها المكشوفتين حتى الإبط.
- يا رجل! هنا الناس مهذبون ومحترمون، فلا تنظر للباسهم. إنهم أبناء مدينة عريقون. وهذا هو نمطهم في الملابس، فماذا يضيرك؟ أم أنك تريد أن يلبسوا على مزاجك أنت؟ هل هذا ما تراه فقط، من كل تفاصيل تلك الحفلة!
خجل الرجل، وانطوى على نفسه، ولم يفه بكلمة بعد ذلك!
فكّرتُ: أخونا الغزاوي يريد ترييف صبايا القدس. ويا ليت حتى هذا، بل يريد "طَلبنتهم"، كما هنّ نساؤنا هناك!
أتقلّب في سريري. لمَ بالذات هذه الفتاة؟ كانت واحدة من طاقم يضم العديد من الصبايا الرائعات والشبان الرائعين. لمَ بالذات هذه الفتاة، التي بعمر بناتي؟ ثمّة سر في شخصيتها، في كيميائها، لا بد أرسل إشارته الغامضة إلى أفق بعيد عندي.
أنام أخيراً، على باب الفجر، متمنّياً لها سعادة المستقبل كلّها.
ليُسْعدك أحدهم يا بُنيتي، وليقِكِ من آلام هذه الدنيا. إنّ جمالاً ورقة، كجمالك ورقتك، لَقمينان بأرض أخرى، غير أرض القدس المعذَّبة هذه.
العربي الجديد