مدار الساعة - أن يناط الإيمان بالاعتقاد والقول والعمل، أمر مفهوم ومقدور، فالاعتقاد والقول والعمل بيد الإنسان لا بيد غيره، ومع هذا فمن {مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ} [النحل: 106] فهو غير مؤاخذ بما تكلم به من باطل بشرط ألا يورط بريئا بقوله.
لكن غير المفهوم أن يناط الإيمان بأمر من أمور العاطفة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم :” لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين” [رواه الشيخان من حديث أنس، اللؤلؤ والمرجان (1/9)] غير مفهوم ؛ لأنه غير مقدور، فمَن الذي يملك أن يعطي نفسه قرارًا بحب فلان حتى لو كان هذا الشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم!
الحب والاستطاعة
ربما يرى أصحاب العواطف المرهفة في هذا الكلام شططا وغلوًّا ! أو يراه بعضهم سوء أدب وجفاء في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم!
فأقول له : مهلًا، فليس بالعواطف تقرر حقائق الدين! فهذا الذي تنكره من قولي، قد سبق إليه العلماء.
فهذا الخطابي يقول : لم يُرِد النبي صلى الله عليه وسلم بالحب حب الطبع، بل أراد به حب الاختيار المسند إلى الإيمان؛ لأن حب الإنسان أهله وماله طبع مركوز فيه، خارج عن حد الاستطاعة، ولا سبيل إلى قلبه…. فمعناه لا يصدق في إيمانه حتى يفدي في طاعتي نفسه ويؤثر رضاي على هواه وإن كان فيه هلاكه.
حب أم تعظيم؟
وهذا أيضا ما ذكره القاضي عياض، حيث أفاد : أن المقصود بالمحبة هنا التعظيم والإجلال، فقد قال : ” فلا يصحُّ الإيمانُ إلاَّ بتحقيق إنافةِ قَدرِ النبيِّ – صلى الله عليه وسلم – ومنزلتِهِ، على كلِّ والدٍ وولد، ومُحسِنٍ ومُفضِل، ومن لم يعتقد هذا واعتقَدَ سواه، فليس بمؤمنٍ.” [المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (1/ 225).]
ولأن التعظيم أمر مقدور للنفس، لم يحتج القاضي عياض حينئذ أن يؤول نفي الإيمان بنفي كماله، بل فسره على ظاهره بنفي أصل الإيمان، ولِمَ لا؟ فالذي لا يعظم النبي محمدًا صلى الله عليه وسلم أكثر من تعظيمه والده وولده ونفسه والناس أجمعين، لا يستحق أن يدخل في زمرة المؤمنين.
لكن المحققين من العلماء رفضوا تفسير الحب بالتعظيم؛ معللين ذلك بأن اعتقاد الأعظمية لا يستلزم المحبة، فقد يعظم الإنسان شخصا ما، لكنه لا يحبه. وممن ذهب إلى ذلك القرطبي صاحب شرح المفهم على صحيح مسلم، والحافظ ابن حجر في فتح الباري.
وأضافوا في التعليل : ولأنَّ عمر رضي الله عنه لَمَّا سمع قولَ رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: لاَ يُؤمِنُ أَحَدُكُم حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيهِ مِن نَفسِهِ وَوَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجمَعِينَ، قَال عمر: يَا رَسُولَ اللهِ! أَنتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِن كُلِّ شَيءٍ إِلاَّ نَفسِي، فَقَالَ: وَمِن نَفسِكَ يَا عُمَرُ، قَالَ: وَمِن نَفسِي، فَقَالَ: الآنَ يَا عُمَرُ”.[ صحيح البخاري، رقم (6632 ) (8/ 129) ] فعمر كان يعظم رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسه لا محالة،فدل ذلك على أن الحب غير التعظيم.
فبقي الإشكال على أصله : كيف يناط الإيمان بالحب؟ وكيف يحقق الإنسان هذه المحبة؟ وما حيلته إذا لم يستطع ذلك ؟ وما هي معايير قياس هذا الحب؟
أما القرطبي فلجأ إلى المكابرة، ذاكرا أن كلَّ مَن صدَّق بالنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -، وآمَنَ به إيمانًا صحيحًا، لم يَخلُ عن وِجدَانِ شيء من تلك المحبَّة الراجحةِ للنبيِّ – صلى الله عليه وسلم -؛ غير أنّهم في ذلك متفاوتون” [المفهم (1/ 226)].
الحب العقلي
أما الحافظ ابن حجر فذهب إلى أن المقصود بالحب هنا الحب العقلي لا حب العاطفة ، وفسر الحب العقلي : بأنه الذي يأتي بعد التفكر والنظر، فالإنسان يحب ما ينفعه ، ويوفر له المتعة واللذة والنفع، ويبعد عنه الألم والنغص والكدر والضر، فإذا تفكر المسلم قليلا فسيجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفر له كل هذه المتع وباعده من كل هذه المضار، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم الواسطة المباشرة ، أو الواسطة المسببة لذلك كله، فما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لينقذ الناس من النار وعذابها، ويأخذ بنواصيهم إلى الجنة ونعيمها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا، فلما أضاءت ما حوله، جعل الفراش وهذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها، فجعل ينزعهن ويغلبنه، فيقتحمن فيها فأنا آخذ بحجزكم عن النار وهم يقتحمون فيها” [متفق عليه من حديث أبي هريرة ، اللؤلؤ والمرجان (3/93)]
فإذا كان الواحد منا يحب أباه وأمه، فإنما يحبهما لما يغذوانه به من النعم، ولما أحاطاه به من الرعاية والتربية والحنان والحب والمال والنفقة والإيثار…. يحبهما؛ لأنهما كانا يحذرانه من الشرور والأضرار مخافة أن تصيبه، وكانا يبعدانه عنها بأنفسهما وقت كان لا يفرق بين ما يضر وما ينفع.
يحبهما؛ لأنهما يغفران الإساءة ، ويصفحان عن البذاءة، ويقيلان العثرة، ولا يقصران في النصيحة، فإذا تفكر الواحد منا فسيجد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدخر جهدا في دلالة الناس على الجنة حيث النعيم السرمدي وتحذيرهم من النار حيث العذاب السرمدي، وتحمل من أجل أمته من العنت والأذى والعذاب واللأواء مالم يتحمله أب من أجل ولده، ولا ولد من أجل والديه . [فتح الباري لابن حجر (1/ 59) ]
وإلى هذا ذهب شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال مبينا سبب وجوب هذا الحب : ” وأما السبب في وجوب محبته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتعظيمه أكثر من أي شخص فلأن أعظم الخير في الدنيا والآخرة لا يحصل لنا إلا على يد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالإيمان به واتباعه ، وذلك أنه لا نجاة لأحد من عذاب الله ، ولا وصول له إلى رحمة الله إلا بواسطة الرسول ؛ بالإيمان به ومحبته وموالاته واتباعه ، وهو الذى ينجيه الله به من عذاب الدنيا والآخرة ، وهو الذى يوصله إلى خير الدنيا والآخرة . فأعظم النعم وأنفعها نعمة الإيمان ، ولا تحصل إلا به وهو أنصح وأنفع لكل أحد من نفسه وماله ؛ فإنه الذى يخرج الله به من الظلمات إلى النور ، لا طريق له إلا هو ، وأما نفسه وأهله فلا يغنون عنه من الله شيئا ..) اهـ مجموع الفتاوى 27/246.
مقياس حب النبي
مقياس وجود المحبة : الطاعة ؛قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران: 31].
وسئل بعضهم عن المحبة، فقال: الموافقة في جميع الأحوال.
فعلامة تقديم محبة الرسول على محبة كل مخلوق: أنه إذا تعارض طاعة الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوامره وداع آخر يدعو إلى غيرها من هذه الأشياء المحبوبة، فإن قدم المرء طاعة الرسول وامتثال أوامره على ذلك الداعي: كان دليلا على صحة محبته للرسول وتقديمها على كل شيء، وإن قدم على طاعته وامتثال أوامره شيئا من هذه الأشياء المحبوبة طبعا: دل ذلك على عدم إتيانه بالإيمان التام الواجب عليه.
وكذلك القول في تعارض محبة الله ومحبة داعي الهوى والنفس، فإن محبة الرسول تبع لمحبة مرسِله عز وجل. هذا كله في امتثال الواجبات وترك المحرمات.
أما السنن والمستحبات ،فإن تعارض داعي النفس ومندوبات الشريعة، فإن بلغت المحبة على تقديم المندوبات على دواعي النفس كان ذلك علامة كمال الإيمان وبلوغه إلى درجة المقربين والمحبوبين المتقربين بالنوافل بعد الفرائض، وإن لم تبلغ هذه المحبة إلى الدرجة فهي درجة المقتصدين أصحاب اليمين الذين كملت محبتهم ولم يزيدوا عليها. [فتح الباري لابن رجب (1/ 49)].