مدار الساعة - إبراهيم السواعير - يحمل المثقف النخبوي السوداني، فنّاناً كان أم أديباً أم أستاذاً جامعيّاً، همّ وطنه إلى العالم؛ مبرزاً المرحلة الجديدة لبلده بعد الثورة الباسلة التي استعاد فيها وجهه الديمقراطي، وانزاحت عنه صخرة ظلّت جاثمةً عليه ثلاثين سنةً، في حربٍ مع الفنّ، ليظلّ المسرح طيلة ما مضى مكرّساً للاحتفال الكرنفاليّ بالسلطة.
ذلك ما يؤكّده الفنان السوداني ربيع يوسف الحسن مخرج مسرحيّة"مؤامرة شكسبيريّة" التي شارك بها في الدورة السادسة والعشرين لمهرجان الأردن المسرحي، وظلّ يحمل مع فنانَيْه: "موسى الأمير" و"أبو بكر فيصل" شخصيّتي الملك لير والبهلول، المسرحيّة المستوحاة من نصّ الحريق للمبدع العراقي الراحل قاسم محمد، والمستعار أصلاً من مسرحيّة"الملك لير" للشاعر والكاتب المسرحيّ الشهير وليم شكسبير.
المخرج ربيع الحسن، وبالرغم من فجيعته قُبيل المشاركة وأحزانه الشديدة لفقدانه في السودان أعزّ أصدقائه وأبرز ذكريات المسرح والغناء والفن محمد يوسف، ظلّ محافظاً على اتزانه، يكتم همومه في ثنايا الابتسامة المعروفة عن السودانيين، حتى وهم يقاسون آلام الانفصال السياسيّ الذي يرونه بأمّ أعينهم، الآلام التي حَدَت بالمخرج الحسن لأن يستثمر أهواء الملك لير في تقسيمه مملكته بين بنتيه، وصحوته على النتيجة المريعة في قهره واستفزازه، بل وتغولّهن عليه، وحرمانه حتى من ممارسة أبسط حقوقه،.. فيكون الجمهور في المسرح الدائريّ بالمركز الثقافي الملكي أمام "الملك لير" و"البهلول"، وهما يتعاركان ويتشاكسان ويتفاعلان مع مسرح داخل المسرح؛ كان الوجه السودانيّ فيه يتكشّف شيئاً فشيئاً، حتى ثمالة الجملة الأخيرة على لسان البهلول، حين رثى مليكه الذي مات كمداً وحزناً، فقال: "من لإصلاح هذا الوطن الجريح"!
"البهلول" المثقف.. ضميرالوطن
فإذا كان قاسم محمد يحسب له فكريّاً وتقنيّاً اشتغاله على نصّ الحريق، باتخاذه موقفاً فكريّاً ونقديّاً من مسرحيّة شكسبير.. كنصّ موازٍ، فإنّ الذكاء في التعامل مع أيّ نص هو في المقدرة على إغنائه وتضمينه واقعاً جديداً والاستفادة مما يمنحه النص الأصيل من فسحة أو مجال لأن تُبثّ خلاله أفكار جديدة تتصل بالسياق الأصيل، وتختصّ بواقع معيّن قيد الاشتغال.
ولذلك فقد توفّر للمخرج ربيع الحسن ما يراه منهجاً صالحاً لموقف نقدي أيضاً يتناسب مع الحالة السودانيّة؛ فيسمح بمواربة المُعطى السياسي السوداني المتعلّق بخطاب وحدة السّودان واستيعابه، شماله وجنوبه، أمام خطاب الانفصال في التشرذم أو رفض الآخر ونبذه.. فهي عمليّة مشابهة متن نصّ الحريق وأيضاً متن نصّ شكسبير، للمعطى السوداني السياسي والاجتماعي والثقافي؛ طبعاً بالاستناد إلى حكاية تقسيم الملك لير مملكته او إرثه بين بناته، والقصّة معروفة للمثقفين وقارئي مسرحيّة شكسبير.
ما الذي يبرر هذا العمل على المستوى السودانيّ؟!.. في الواقع يبرره سؤال الوحدة الذي ظلّ في الخمسين سنةً الماضية سؤالاً ملتهباً ومتوتّراً جداً يقاوم هذا الخطاب العنصريّ البغيض، الذي يعمل على تفتيت السودان إلى دويلاتٍ صغيرة بفعل رؤى ونخب سياسيّة، يعتبرها المثقف السوداني والنخبوي رؤىً قاصرةً وتنفّذ أجندة منظومة عالميّة تتدخّل بشأن السودان، فلا تريد له إلا التشرذم والتفتيت.
ولأنّ خيار الوحدة هذا لا يقف عند شمال السودان وجنوبه حسْب، وإنّما يمتد ليلقي بظلاله على أقاليم سودانّية أخرى مهددة بالخطر ذاته، كأقاليم جبال النوبة والنيل الأزرق ودارفور.. فهي عمليّة تضجّ بالمقاومة، فهل يبقى سؤال الوحدة حاضراً، حتى بعد التحوّلات الأخيرة في الوجه الديمقراطي للسودان؟!.. وإلى أيّ حدٍّ يحتاج هذا العرض إلى إعادة قراءة بتضمينات جديدة ورؤى مكمّلة؟!.. كأن يستصحب منجزات الثورة الباسلة في هذا البلد؟!.. هذا يتوقّف على مدى شموليّته وكونه عيناً للسلطة؛ باعتبار الثقافة- والفنّ جزءٌ أصيلٌ منها- حصاناً للسياسة أو عيناً لها أو صمّام أمان أو صوتاً تحذيرياً أمام كلّ ما يستجد. فما كان قبل الثورة يمكن أن يُعاد إنتاجه، في خضمّ الإغراق في الفرح أو الاطمئنان إليه. ولعلّ من مستحقات هذه الثورة وجوب اشتغال المثقف والفنان على الوعي في كلّ المجالات وأن يبثّ الحالة الجماليّة التي يحققها المسرح وكلّ الفنون بطبيعة الحال.
لكنْ، على وجاهة هذا المبدأ- وأحقيّة الفنان السوداني أن يبرز ذلك واجباً واشتغالاتٍ فنيّةً- كيف كانت المعالجة الفنيّة، وما مدى معالجة هذين الخطابين، بتحميل البهلول ضميراً وطنيّاً وصاحب رسائل عظيمة في احترام التعدد والتنوّع والاختلاف أمام خطاب الملك لير الانفصالي أو دعوته المقيتة إلى نقاء العِرق؟!.. هل كانت المعالجة الدراماتورجيّة لنص الحريق كافيةً لطرح خطاب التعدد وفق اشتغال مسرحي ينزع صفة الجمود السياسي إلى الطبيعة الفنيّة أو الحالة المسرحيّة، بمعنى هل برزت حالة توهان الملك لير وضَياعه في العاصفة بعد أن شُرّد من قبل بناته؟!.. هل وازت المشاهد المنتخبة من نصّ الحريق الإنساني، والعراقي بطبيعة الحال، الحالة السودانيّة،.. أي"سَودَنة العمل"، وهل كانت استراتيجيّة تبديل الحوار والحذف والإضافة بالمعطى السياسي ناجحة؟!.. وهل برز السودان على مستوى المنطوق وخصوصيّته التي يمكن أن تنسحب على كثير من الخصوصيّات العربيّة والإنسانيّة؟!
أعتقد أنّ العمل حاول جهده أن ينهض بكلّ هذا، في بلد نسمع أن فيه لغات كثيرة وليس لهجات،.. وقد حمل إلينا نداء البهلول وهو يحمل علم المملكة التي انهارت: " والآن، من لهذا الوطن الجريح؟!"، وسواها إشارات عذبة ومأساويّة جعلتنا نشعر بفداحة الأمر.
القصيدة النازفة.. حكاية السودان
لكنْ، هل إبراز هذه الخصوصيّة السودانيّة بالضرورة يحتاج إلى أن تأتي فجّةً ثقيلةً فاضحةً، ونحن نعلم مدى زهد المتلقي النخبوي بالنصّ المفضوح أو مغادرته كلّ هذه الصراحة ويأسه منها؟!.. الواقع أعجبني أنّنا طيلة العرض لم نسمع بلفظة السودان؛ إذ دائماً ما يشار إلى ذلك بلفظة "قصيدة"؛ حين يقول البهلول مسائلاً الملك لير، في أولى حواراته: لِمَ شطرتَ القصيدة؟!.. لِمَ جرحتَ القصيدة؟!.. لِمَ قتلتَ القصيدة؟!.. فالوطن بالنسبة للبهلول حالة من القصيدة التي يجب أن تخلق باستمرار الهويّات المنسجمة في الهويّة الجامعة واستيعاب كلّ هذا التطوّر الحاصل؛ لذلك سمّاها الحكاية، فقال: "حكاية لم يكفّ العالم عن ترديدها"، لنظلّ نروح ونجيء حتى نصل إلى قفلة أو نهاية مأساويّة تنقل تراجيدية الواقع السياسي والاجتماعيّ بسبب أطماع النخب السياسيّة التي لا ترى في الوطن العربيّ غير مصالح شخصيّة أو حزبيّة ضيّقة.
هل وفّى الحوار بتعابير مثقّلة ومشحونة بالشعريّة والبلاغة وشدّ المتلقي، لأن يظلّ يتابع ويفهم ويتواصل، فيستمتع؟!.. هل كان الديكور أو السنوغرافيا من الكفاية لفرقة أهليّة"الورشة الجوالة المسرحيّة"، كفرقة غير رسميّة تعاني ما تعانيه من شحّ الموارد والدعم، ولا تستطيع ترحيل الديكور الأصيل أو السفر به بسبب الكلفة الماديّة المصاحبة؟!.. هل خلخل العرض حالة التلقي السالب لحوارات من هذا النوع قد يكون اعتادها جمهور المسرح العربي؟!..
في الواقع هذا ظلّ يعتمد على مدى التقاط الممثل لإشاراته والجديّة في الإمتاع بها، وأيضاً على مدى تذوّق المتلقي، وتذوّق المتلقي هو مرحلة دنيا لقراءة العمل، تنبني عليه قراءات أخرى؛ لأننا نقول في الأدب إنّ الانطباع هو أوّل النقد. فهل وصل الأداء التمثيلي والانفعالي إلى الصالة في 45 دقيقة تقريباً في لغة وسيطة لا متردّيةً ولا رفيعةً جدّاً، لغة ظلّت تمزج بين الفصحى والعاميّة، ربّما لتكسر حدّة الحوار الممتع أصلاً بمناكفة البهلول للملك لير وتصالحه معه مرّةً وخروجه عليه مرّات، في استذكار الحكاية وطقوس التقسيم والندم على ما فات.
إنّ ميزة هذا العمل هي أنّه عملٌ واسعٌ وجمعيٌّ في خدمته هدف الوحدة، وهو بالتأكيد عملٌ غير متصالح مع النظام السابق الذي سيطر كلّ هذه المدّة الطويلة على الأنفاس، فهل تمكّن موسى الأمير وأبو بكر فيصل من توصيل المحمولات النفسيّة والوجدانيّة والفكرية للجمهور، الذي دائماً ما يزهد بخطاب سياسي جاف أو إنشائي محض، بل حتى إنّه كثيراً ما يعيب الغنائيّة إن كانت جافةً أو ثقيلةً من غير رؤيةٍ أو معنى أو هدفٍ ترجو الوصول إليه؟!
الغيبوبة و"الشيخوخة السياسية"
منذ اللحظات الأولى حمل العرض مفردات دالّة، وقرائن معنويّة مهمّة تشير إلى الوطن، حتى مع غياب لفظة السودان، وكأنّ المخرج تعمّد ذلك لكي لا يفضح النصّ، وليترك للمتلقي أن يسير معه سيراً طبيعياً من خلال التلقي الذّكي، إذ وردت مفردة الغيبوبة التي ظلّ يعيشها الملك لير كتقريع من قبل البهلول، الذي لم يكن بالتأكيد بهلولاً عاديّاً، بل كان بهلولاً مثقّفاً وواعياً وعيناً رقيبةً على الوطن وللوطن، خصوصاً في تعابيره وأسئلته التي تمخّضت عن حالة جديدة للملك لير في العاصفة الشهيرة التي جاءت بعد انتهاء مُلكه بدعوةٍ منه غضباً على كلّ هذا التنكّر له من أقرب الناس إليه. يقول البهلول: أجرحتَ القصيدةَ أم لا؟!.. كيف سُرقت القصيدة؟!.. ومفهوم السرقة يحمل سرقة المقدرات وخيرات الوطن، ثمّ إنّ تعزيزاً لذلك كان من خلال طلب الملك لير وهو في عنفوانه لخريطة البلاد، والخريطة بما تحمله من جغرافيا بالتأكيد تحمل معنى التقسيم الذي يعززه قول البهلول في إحدى عتابياته الشديدة للملك لير: لماذا شطرتَ القصيدة؟!
يلفت في العرض ورود ما يؤكّد معنى "الشيخوخة السياسيّة"، المستمدة من قول الملك لير: " سنلقي عنا عبء شيخوختنا"، ومشهد التنازع على العرش بين البهلول والملك لير كتنازع لحواري الوحدة والانفصال، كما برزت مفردة قويّة للغاية هي مفردة "الحكم الراشد" على لسان البهلول"، فضلاً عن تعبير الأفاعي والعقارب، والأوان الذي فات: "يا مليكي، فات الأوان".
على المستوى السنوغرافي، كانت بقايا سفينة ودفّة لتحريكها وشظايا الدمار، وهي إدارة مخرج قدير صنع من المتاح ما يدعم فكرته الأساسيّة في هجاء الخطاب الانفصالي في السودان.
وحتى نكون مع إبداعات جديدة للسودان بعد الثورة، فقد كنتُ طيلة العرض أتفرّس في وجه موسى الأمير "الملك لير" وأشعر كم هو عظيمٌ هذا الرجل وهو يزأر بكامل هيئته وعنفوانه: "أنا الملك لير!"، أو وهو يسخط على ابنته السخط كلّه حين لم يُرض جوابها غروره، فله صولة وجولة، حتى مع مزاجه الحزين قُبيل العرض،..كما أنّ مراوغة الفنان الشاب أبو بكر فيصل"البهلول" تُظهر كم لدى هذا الممثل من طاقة وشموليّة في لعب أدوار عديدة واثقاً كلّ الثقة من صوته الخاص وحسن إدارته للأدوار، إذن، قد أدّى الفنانان موسى الأمير وأبو بكر فيصل جهدهما، ووقفا على المحاور الرئيسة للثيمة وأكداها، فتحملا وجع السودان، وظلّا قبيل العرض وبعده يشعران بمرارة فقد زميلهما في السودان، أمّا الفنان المخرج المثقف الواعي ربيع الحسن فقد بقي يحمل في ابتسامته الكبيرة وقلبه الحزين المنفطر على فقد صديقه محمد يوسف، رثاء ابن الرومي ولده واسطة العقد، حين قال: "بكاؤكما يشفي وإن كان لا يجدي/ فجودا، فقد أودى نظيركما عندي/ ألا قانل الله المنايا ورميها/ من القوم حبّات القلوب على عَمْدِ".