التوظيف السياسي للمؤسسات الدينية والاعلامية في أوقات الأزمات
لكل دولة اجهزتها ومؤسساتها الدينية والاعلامية وكتابها ومؤرخوها المدافعون عن قراراتها وسياساتها أو يوثقون ما تعتبره انجازاتها لادراكها بان التاريخ هو سجل لذاكرة الشعوب واعمالها ويحفظها من الضياع.
وهذه الاجهزة أو المؤسسات أو الكتاب يتبنون تفسير الاحداث وتبريرها من وجهة النظر الرسمية التي لا تتطابق في أغلب الاحيان مع وجهة نظر الشعوب. وكمثال على ذلك ماقاله المؤرخ الرسمي للدولة البويهية ابو اسحاق ابراهيم الصابي عندما طلب منه عضد الدولة أن يؤلف كتابا عن الاسرة البويهية يبرز فيه نسبها وتميزها فكتب تحت ضغوط الحاكم كتاب (تاج الملك) دون قناعة وبعيدا عن الموضوعية والامانة العلمية ولما سأله أحد أصدقائه حول محتوى الكتاب قال (أباطيل أنمقها واكاذيب ألفقها) ولما علم الحاكم بذلك كاد ان يرميه تحت أرجل الفيله لولا شفاعة كثير من العلماء له عند الحاكم.
أما وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة فهي نوعان مؤسسات رسمية تابعة للدولة ومهمتها ترويج وتبرير سياسات وقرارات الدولة في كل المجالات ومؤسسات خارجية يتم انشاؤها خارج البلاد لهذه الغاية او يتم دعم مؤسسات أجنبية ماليا لتحسين صورة الانظمة أمام العالم الخارجي والذي يشاهد الفضائيات كالجزيرة والعربية والصحف العربية الصادرة في لندن وغيرها على سبيل المثال لا الحصر يدرك ذلك.
أما المؤسسات الدينية الرسمية فهي لا تقل أهمية ان لم يكن تأثيرها أقوى من المؤسسات الاعلامية لما للدين من تأثير في حياة الناس. وهنا يجب أن نميز ما بين النص الديني المقدس الذي نؤمن به جميعا ولا اختلاف عليه وما بين فهم النص وتأويله وتوظيفه لاغراض مختلفة. فعلى مدار التاريخ، لجأت كثير من الانظمة السياسية وما زالت تلجأ الى المؤسسات الدينية وتوظيفها من اجل تنفيس مشاعر الغضب المحتقنة لدى المواطنين ضد ممارساتها السياسية أو الاقتصادية وذلك بصرف انظارها وتحويل اهتماماتها عن مشاغل الحياة الدنيوية الى مشاغل الحياة الاخروية من خلال لي أعناق النصوص الدينية وتأويلها او تفسيرها او تطويعها لتخدم الاغراض السياسية لاسيما ان القرآن كما يقول الامام علي كرم الله وجهه حمال أوجه ففيه نصوص اذا ما سلخت من سياقها العام (مثال ذلك : وان جنحوا للسلم فاجنح لها) او تم تجاهل مناسبتها والوقائع التي جاءت بخصوصها يمكن ان تقنع الناس وخاصة البسطاء او حتى كثيرا من المتعلمين بوجهة نظر السلطة السياسية، ومثال ذلك قيام الداعية أو الخطيب أو المفتي باستحضار تلك النصوص التي تدعو الى الصبر والزهد وتحمل شظف العيش وظلم المستغلين والظالمين وتدعوهم الى تكريس حياتهم للعبادة وتحمل أهوال الواقع وان الله لن يضيع أجرهم على ماعانوه وما سيعانونه وسيكون جزاؤهم في الاخرة جنات النعيم تعويضا لهم عما لاقوه من قهر وجوع وفقر واستبداد في حين سيكون مصير الظالمين في جهنم وبئس المصير.
ومع أن ظاهر الخطاب صحيح لان الظالم لابد ان يلاقي جزاءه ان لم يكن في الدنيا فسيلاقيه في الآخرة كما ان المظلوم لابد ان يكون جزاؤه جزاء حسنا في الاخرة الا ان ظاهر الخطاب شيء وأهدافه ومراميه الحقيقية شيء آخر. ففي مثل هذه الحالات هناك تواطؤ ما بين المؤسسات السياسية والدينية في صرف انظار المواطنين عن مطالبها الحقيقية والمشروعه ومطالبتها بان ترضى بما هي فيه من فقر وعوز بحجة الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد وهي ظروف على أية حال ـــ كما يقول الوعاظ ــــ ظروف ان شاء الله مؤقتة وسيتبعها الانفراج باذن الله ويحصل المواطنون حينئذ على الحياة الكريمة مستحضرين (أي الخطباء او الوعاظ ) قصصا تاريخية عن صبر الرسول (ًص) وصحابته على الصعوبات التي واجهوها كنماذج ليتأسى بها المواطنون ومثل هذا النوع من الفقهاء ينعتهم عالم الاجتماع العراقي علي الوردي بوعاظ السلاطين الذين يملأون عقول الناس بالمثل الطوباوية بينما هم يغضون النظر عن الواقع الاجتماعي السيء الذي يعيش فيه الناس والذي يمنعهم من ادراك تلك المثل العالية ، هذا وفي الوقت الذي يدعون الناس فيه الى الصبرعلى صعوبات الحياة فانهم ينعمون بكل متع الحياة وطيباتها.
بطبيعة الحال كثيراما تنطلي هذه الحجج والذرائع على جماهير المواطنين لانها بطبيعتها غير ميالة كثيرا للتامل في أسباب المشاكل وغير مؤهلة للمحاكمة العقلية . فالفرد كما يقول غوستاف لوبون أذكى من الجمهور الذي تحكمه أوقات الأزمات روح وعقلية جمعية مشتركة يتدنى فيها مستوى الذكاء لذلك يمكن استغلاله وتوجيهه وفق ما يراه السياسي. فهناك أمثلة على وقائع كثيرة وظفت فيها هذه التفاسيرالمعوجة في غسل أدمغة الكثيرين من الشباب المسلم واقتيادهم الى المذابح كما جرى في افغانستان أوالحروب الدائرة حاليا على الساحة العربية والتي تقودها داعش واخواتها من المنظمات الارهابية والتي توظف بشكل مغلوط نصوص الدين الحنيف لخدمة اغراضها الارهابية والخسيسة . وداعش وأخواتها ليست حالة فريدة في التاريخ الاسلامي او غير الاسلامي فقد شهد تاريخنا القديم حركات ارهابية وظفت النص الديني توظيفا خاطئا لاهدافها السياسية مثل الخوارج حيث رفعت في معركة صفين شعار لا حكم الا لله رافضة قبول مبدأ التحكيم ما بين الامام علي ومعاوية وحينها قال الامام علي رضي الله عنه عن هذا الشعار كلمة حق أريد بها باطل . ومثل ذلك جرى في التاريخ المسيحي حيث وظفت الكنيسة النصوص الدينية في اشعال الحروب الصليبة التي تم فيها تجييش المسيحيين البسطاء تحت دعاوى تخليص قبر السيد المسيح من أيدي الكفرة ويقصدون المسلمين وهم في الحقيقة يسعون للسيطرة والهيمنة على هذه البلاد لما فيها من مزايا جيوسياسية وخيرات اقتصادية ولكن تحت غطاء ديني .
صحيح ان الامم تمر في حالات واوضاع اقتصادية صعبة تتطلب الصبر والصمود وتتحمل الكثير من المعاناة تحاشيا لرهن ارادتها وقرارها السيادي للآخرين لكن هذا يتطلب قيادات سياسية وطنية مخلصة ووعاظا صادقين واعلاميين مهنيين موضوعيين يصارحون الناس بحقيقة التحديات واسبابها وطرح الحلول الواقعية لمجابهتها على ان يكون الجميع قيادات في الدرجة الاولى والمواطنون شركاء في الغنم والغرم وعندها سيتحمل المواطنون كل الصعاب في سبيل استقلال وطنهم وكرامته وتهون من اجل ذلك كل التضحيات.