أطروحات حول مشروع النهضة العربية

مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/24 الساعة 02:28
شغلت قضية النهضة العربية او اشكالية التقدم والتأخر ومازالت تشغل اهتمام المفكرين والسياسيين العرب منذ مطلع القرن الفائت وحتى اليوم وتباينت أطروحاتهم حول الكيفية التي يمكن من خلالها الخروج من حالة الركود والجمود والتخلف الحضاري التي يعاني منها العالم العربي في شتى الميادين. فتيارات الإسلام السياسي ترى أن سبب التأخر هو عدم تطبيق الشريعة الاسلامية وأحكامها، فالإسلام هو الحل وأن السير على نهج السلف وبخاصة فترة صدر الاسلام هو المخرج مما نعانيه من تأخر وركود حضاري وانه كما قال الامام مالك لا يصلح أمر هذه الأمة الا (بما) أي "بالذي " صلح به أولها. ولهذه الــ (بما/الذي ) كما يرى الدكتور محمد عابد الجابري معنيان، الأول معنى ظاهري وهو أن صلاح الامة كان بأتباع النهج الاسلامي، غير أن هناك معنى خفيّا مسكوت عنه لايقل أهمية عن المعنى الظاهري للعبارة وهذا المعنى متضمن في حرف الــ( ما/الذي ) أي ان صلاح هذه الامة في الماضي، بالأضافة الى اتباعها النهج الاسلامي، كان بزوال الــ(ما أو الذين ) أي بزوال امبراطوريتي الروم وفارس كعوائق في وجه النهوض والتقدم الحضاري الاسلامي، وان صلاح الامة الحالي لن يكون الا بمثل ذلك، أي بزوال هيمنة الدول الغربية المهيمنة على العالم التي تعيق حاليا نهضة الامة كما كانت دولتا الروم والفرس تقفان عائقا امام نهضة الامة في صدر الأسلام. وهذا الرأي تؤكد صحته الهيمنة الغربية التي منعت ومازالت تمنع قيام كيان سياسي عربي أو اسلامي موحّد في هذه المنطقة الحساسة من الناحية الجيوبوليتيكية من العالم لاعتبارات كثيرة، منها تاريخية ومنها سياسية ومنها اقتصادية،ولذا فما دامت هذه الدول قائمة وقوية، فان أي جهد حقيقي يبذل من أجل تحقيق النهضة او الوحدة او التقدم ستسارع تلك الدول الى ضربه وأجهاضة لأنه يهدد كُلًّاً من مصالحها في المنطقة ووجود الكيان الصهوني حارسها الأمين على تلك المصالح ومثال ذلك ما حصل مع جميع المحاولات التي أطلقنا عليها مجازا بالمشاريع النهضوية والتحررية منذ مشروع محمد علي باشا والشريف الحسين بن علي وعبدالناصر وصدام حسين وغيرهم.ولذلك فان غياب هذه الدول ــ أي الغربية على وجه الخصوص ــ عن مسرح السياسة العالمية هو الشرط الضروي واللازم لنهضة العرب والمسلمين وتقدمهم! أما أصحاب الاتجاه الليبرالي أوالعلماني او المدني والذين تسميهم تيارات الاسلام السياسي بـ ( التغريبيين ) فيرون أن النهضة والحداثة والتقدم لا يمكن أن تكون الا بأ تباع وتقليد النهج الذي سارت عليه الدول الغربية المتقدمة والمتمثل بتحييد الدين عن السياسة والتركيز على الامور الدنيوية والأخذ بالنهج العلمي في الحياة والسعي لامتلاك ناصية التكنولوجيا التي نقلت تلك الدول من مهاد التخلف الى ما هي عليه اليوم من تقدم مذهل في كافة الميادين هذ اضافة الى الاخذ بالنظام الديمقراطي وأشاعة الحريات العامة والخاصة وحقوق الانسان واحترام خصوصيات الافراد والجماعات والتعامل مع المواطنين على اساس المواطنة بغض النظر عن المعتقد والعرق والطائفة وغيرها. فالأساس هو المساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات وان اساس المفاضلة هو العمل والانجاز والأخلاص للوطن والدفاع عنه. لكن هذا النموذج الغربي للحكم قد حمل الينا في آن واحد ـــ حسب رأي الدكتور الجابري ـــ الحرية والقمع في آن واحد أي حمل الينا الأيديولوجيا الليبرالية والتدخل الاستعماري في آن واحد، ومن هنا موقف العرب المزدوج من الغرب المتمثل بالاعجاب بنظمه وديمقراطيته وفي نفس الوقت الكره لممارساته الاستعمارية وقهره للشعوب ونهب خيراتها وأفقارها. ولذلك يعاني العربي من حالة التناقض الوجداني حيال هذا الأمر فان هو أخذ بالجانب الايجابي من الحضارة الاوروبية الغربية المعاصرة فانه يتطلب منه السكوت عن الجانب المكروه لهذا النموذج وهو التدخل الاستعماري الذي يعيق مشروع النهضة وهذا غير ممكن لان الموقف الصحيح هو فضحه ومقاومته. أما أصحاب الاتجاه الماركسي واليساريين بشكل عام فيرون انه لا تقدم الا بأتباع المنهج الماركسي المادي الجدلي القائم على اطروحة الصراع الطبقي وسيطرة الطبقة العاملة اي البروليتاريا على مقاليد الامور في كافة مناحي الحياة وتحقيق الاشتراكية حيث يسود مبدأ من كل حسب طاقته ولكل حسب جهده وذلك كمقدمة لتحقيق المجتمع الشيوعي الذي تنعدم فيه الطبقات والدولة كمؤسسة قهرية وتنتفي فيه كل صور استغلال الانسان للأنسان ويصبح العمل ليس من أجل البيع والربح وانما لتلبية احتياجات السكان، فبالعمل الجماعي ستزداد كمية الانتاج بشكل يزيد عن حاجة الناس وعندئذ يصبح المبدأ السائد هو من كل حسب طاقته ولكل حسب حاجته.

لكل اتجاه من الاتجاهات الثلاثة السابقة مرجعياته الماضوية أي سلفه الذي يستلهمه ويقيس عليه مشروعه. فالأسلاميون يقيسون على تجربة سلفهم الاسلامي الماضي أيام الخلافة الراشدة وما تلاها،والليبراليون العرب يقيسون على تجربة سلفهم المعاصر أي الدول التي تبنت الاتجاه الرأسمالي وتجربته النهضوية في القرنين التاسع عشر والعشرين.. والاشتراكيون العرب ـــ لتعدد مرجعياتهم ـــ يقيس كل اتجاه منهم على تجربة سلفه الصيني أو الروسي وغيره. وكل هذه الاشكال من القياس هي سمة من سمات الفكر العربي المعاصر التي شخصها الدكتور الجابري بعقلية قياس الغائب (المستقبل /النهضة المأمولة ) على الشاهد (الماضي /التجربة الاسلامية او الليبيرالية او الماركسية السابقة ) أي اننا نتطلع لتحقيق النهضة في المستقبل على نفس الاسلوب الذي تحققت فيه النهضة في الماضي سواء وفق النموذج الاسلامي او الرأسمالي او الاشتراكي. في داخل كل نموذج من هذه النماذج المقترحة للنهضة تباينات وآراء ونظريات مختلفة. فهناك أكثر من نموذج رأسمالي في النهضة مثلا كالياباني والامريكي والسنغافوري والماليزي والتركي وغيرها. وهناك اكثر من نموذج اشتراكي كالروسي والصيني والكوبي والكوري الشمالي واليوغسلافي سابقا وبعض النماذج العربية التي تتسم بالانتقائية مثل الجزائر وسوريا والعراق سابقا. وهناك أكثر من اتجاه اسلامي كالأيراني والتركي والسعودي والباكستاني والسوداني. وكل اتجاه منها له نموذجه الذي يلتقي فيه أو يختلف مع الاتجاهات السياسية الاسلامية الاخرى، وان كان يجمعها جميعا الاطار الفكري الاسلامي العام، غير ان هذا الاتجاه لم ياخذ شكله النهائي بعد، لأن هناك تطبيقات متعثرة له وخاصة في الدول التي ترفع شعارات اسلامية وتدعي أنها دول تطبق الشريعة الاسلامية كالسودان والسعودية وباكستان وايران، ورغم أنها كما تدعي بأنها تطبق الشريعة الاسلامية الا أن ما تطبقه في مجال الاقتصاد على سبيل المثال لايتعارض في جوهره مع النهج الرأسمالي السائد عالميا الآن، فالنظام الاقتصادي الاسلامي يجمع بين خاصيتين لنظامين سياسيين اقتصاديين متناقضين، فهو يعترف بالملكية الخاصة التي يقوم عليها النظام الرأسمالي كما يعترف في نفس الوقت بالملكية العامة التي يقوم عليها النظام الاشتراكي.

والخلاصة، فان من الصعوبة بمكان وجود نظام سياسي اقتصادي اجتماعي يجمع عليه الناس لاختلاف ثقافاتهم ومعتقداتهم، لكن أشواقهم اينما كانوا ومهما اختلفت اتجاهاتهم ومعتقداتهم هو البحث الدائم عن النظام الذي يحقق لهم العدالة والرفاه،واحترام معتقداتهم وحرياتهم الشخصية والعامة، والغاء اي تمييز بينهم على اساس الدين او الطائفة او العرق او الجنس، والتعامل مع الجميع وفق مسطرة قانونية واحدة على أساس قاعدة المواطنة، من حيث الحقوق والواجبات وتكافؤ الفرص، نظام معيار التمييز فيه بين المواطنين هو كفاءة الاداء والانجاز والانتماء للوطن والدفاع عنه في الملمات، وأي نظام يحقق لهم هذه الشروط أو يسعى لتحقيقها، سيكون مهوى أفئدتهم، بغض النظر عن اليافطة الايديولوجية التي يرفعها!
مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/24 الساعة 02:28