حرية عالقة.. حالة الإعلام في الأردن
مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/15 الساعة 17:05
تراجعت الانتهاكات الواقعة على الإعلاميين في الأردن، ولم تتحسن صورة وواقع الصحافة، هذا هو الاستنتاج الذي خلص إليه تقرير حالة الحريات الإعلامية في الأردن لعام 2018، والذي يصدره مركز حماية وحرية الصحفيين منذ 18 عاما.
"حرية عالقة" هو العنوان الذي اختاره المركز لتقريره لهذا العام، في محاولة لتكثيف صورة المشهد الراهن لحرية التعبير والإعلام، وإماطة اللثام عن التفاصيل التي رصدها ووثقها.
كلما تراجعت الانتهاكات التي تقع على وسائل الإعلام من المفترض أن تتقدم حرية الإعلام خطوات ملموسة وواضحة ومؤثرة، لكن ذلك لم يحدث في الأردن، وما يزال الصحفيون يشعرون بإحباط شديد وبمخاوف على مستقبل عملهم، وما رصده تقرير مركز حماية وحرية الصحفيين يتفق ويتقاطع ويتكامل مع المؤشرات التي أعلنتها تقارير المؤسسات الدولية المدافعة عن الإعلام.
ما لم تحدث إصلاحات سياسية حقيقية في الأردن فإن حرية الإعلام ستظل عالقة، وستظل مرهونة بإرادة سياسية لم تحسم قرارها في المضي نحو التغيير، وبالخروج من "المنطقة الرمادية"، والتخلي عن التردد والمراوحة في ذات المكان.
76 بالمئة من الإعلاميين يرون أن التشريعات تفرض قيودا
حرية عالقة للإعلام ليست وليدة هذا العام، وإنما موروث ممتد من التحديات والمشكلات العالقة التي لم تحل، وبقيت تُدوّر ويعاد إنتاجها بأشكال وأنماط جديدة.
فما هو الجديد والغريب حين نتحدث عن استخدام التشريعات كأداة لتقييد حرية الإعلام؟
فمنذ عام 1989 تاريخ عودة الحياة البرلمانية والديمقراطية وقوانين الإعلام تتناسل، وفي كل مرة تتحدث الحكومات عن رغبتها بدعم الإعلام وتُقدم بذات الوقت قانونا يفرض قيودا على الحريات إذا لم يعصف بها.
الأدلة والشواهد كثيرة بدءا من قانون المطبوعات والنشر الذي أعيد إنتاجه وتفصيله أكثر من 10 مرات خلال 20 عاما، وكلما وجدوا أن وسائل الإعلام استطاعت أن تفتح كوة في جدار الحصار والصمت لجؤوا الى التشريع كأسهل وأقصر وسيلة لتطويق الإعلام وتدجينه وتخويفه.
سلسة من الملاحقات ومعارك الكر والفر شهدتها وسائل الإعلام السنوات الماضية، ففي أوائل التسعينيات انتشرت الصحافة الأسبوعية وحققت حالة استقطاب شعبي قل نظيرها فكان لا بد من "تأديبها" فأنتجوا قانون المطبوعات والنشر المؤقت عام 1997 ما تسبب بإغلاق أكثر الصحف الأسبوعية.
وحين انتشرت صناعة الصحافة الإلكترونية لم يترددوا بالتصدي لها وكبح جماحها بقانون المطبوعات والنشر المعدل عام 2012، الذي اشترط الترخيص الحكومي لتأسيس أي موقع إلكتروني في سابقة هي الأولى من نوعها بالعالم، وحين نزح الناس واتجهوا إلى وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن آرائهم وأصبحت منصات للإعلام لاحقوها بقانون الجرائم الإلكترونية ففتح الباب لتوقيف وسجن الإعلاميين ومستخدمي "السوشيل ميديا".
يتابع ويرصد تقرير حالة الحريات الإعلامية تأثير التشريعات على مسيرة الصحافة ويستمع لرأي خبراء فيما أحدثته وأنتجته، ويشير استطلاع رأي الصحفيين الذي نشره التقرير إلى أن 76 بالمئة يرون أن القوانين تشكل قيدا على حرية الإعلام، ويذهب 24 بالمئة من المُستَطلعين إلى وصف حرية الإعلام بأنها متدنية، ولم يعلن أي إعلامي أن الحريات ممتازة، والمقلق أكثر أن 61 بالمئة يعتقدون أن الحكومة غير جادة في بناء حر.
وثق تقرير حالة الحريات الإعلامية تراجع واضح للانتهاكات على الصحفيين لتبلغ 68 حالة فقط، في حين وصلت إلى 173 حالة عام 2017، هذا التقدم الإيجابي لم يجد صداه عند الإعلاميين في استطلاع الرأي وظلت تشغلهم الهواجس والمخاوف من تردي الأمن المعيشي وتداعياته على حياتهم، فالمؤسسات الإعلامية وخاصة الصحف اليومية تحتضر، والإعلام الإلكتروني المتمدد لم يبنِ مؤسسات، والإعلام التلفزيوني والراديو لم يجد قوانين استثمار تشجع صناعة الإعلام وتحتضنها.
الأردن ليس دولة يسود بها الصمت والظلام، والإعلام يتطور، ويحقق قصص نجاح
تقرير حالة الحريات الإعلامية يتضمن قراءة لتأثير الإعلام الجديد و"السوشيل ميديا" على الصحافة التقليدية والإعلاميين، ويقر أن انتشار منصات التواصل الاجتماعي رفع من سقف حرية الرأي والتعبير، وبأنها أصبحت أداة ضغط ورقابة توازي ـ إن لم تتفوق ـ على سلطة الإعلام، وكسرت سطوة وسيطرة الحكومات على تدفق المعلومات، واحتكارها، والسيطرة على المنابر والمنصات الإعلامية.
يشير الخبراء الذين استند إليهم التقرير بشكل جلي إلى أن الحكومات بدأت تتوجس وترتبك جراء التوسع الهائل في استخدام "السوشيل ميديا" وفقدانها السيطرة على المحتوى المتدفق وعدم قدرتها على الرقابة المسبقة وحتى اللاحقة، ولهذا لجأت تطبيق النهج والعقلية ذاتها، التي استخدمتها في التعامل مع الصحافة التقليدية، مع "السوشيل ميديا" وأبرزها سن قوانين مقيدة للإنترنت وحرية التعبير.
حرية الإعلام لا تعترضها فقط حكومات تضيق ذرعا بانتقادها ورقابتها، بل يمتد الأثر لخطوط حمراء و"تابوهات" ترسخها وتصنعها قوى مجتمعية متنوعة ومختلفة، وهذه أثرها لا يقل خطورة عن سلطة مستبدة.
الأردن ليس دولة مستبدة، وحرية الإعلام تملك هوامش معقولة للحركة والعمل، ولكن واقع الحال يشي أيضا أن المشهد لن يتغير جذريا ولن يحقق قفزات، وسنظل نتعثر لأسباب واهنة، واعتقادي أن الدولة الأردنية لم تحسم خياراتها بالانحياز لحرية الإعلام، ولا تنظر لها باعتبارها حليفا لتحقيق الإصلاح وترسيخ الديمقراطية وبناء التنمية المستدامة.
حرية الإعلام وقضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان عموما ما تزال عالقة بين رؤى مختلفة، وتوجهات متعارضة، وصراعات مستمرة، ومقولة العاهل الأردني الملك عبد الله "حرية الصحافة حدودها السماء" التي أطلقها حين تسلمه سلطاته الدستورية قبل 20 عاما لم تترجمها الحكومات وأجهزة الدولة لخطوات عمل، والتحديات التي تواجه الإعلام ليست تشريعات لا تصونها، وإنما غياب استراتيجيات تنفذ، وسياسات تطبق على أرض الواقع.
الأردن ليس دولة ديكتاتورية، والصحفيون قادرون على المجاهرة بآرائهم النقدية للحكومات، وسلطة القانون حاضرة وإن كانت التشريعات ليست حاضنة للحريات، والإعلاميون إن رفعوا صوتهم رفضا وكانوا رقيبا للسلطة لا يزجون بالسجون، ولا يختفون أو يعذبون أو يقتلون، وتبقى هناك دائما مساحة للمناورة، وهوامش للتفاهم مع الدولة على مساحات للحركة.
انتشار منصات التواصل الاجتماعي رفع من سقف حرية الرأي والتعبير
الأردن ليس دولة يسود بها الصمت والظلام، والإعلام يتطور، ويحقق قصص نجاح، ولا تفرض السلطة قبضتها الحديدية عليه، ومؤسسات المجتمع المدني فاعلة وترصد وتوثق الانتهاكات، غير أننا من جهة أخرى لم نلحق بقطار الدول الديمقراطية، وما زلنا "مكانك سر" لم نتعلم من تجارب الماضي، ولم نستفد من الهوامش التي نملكها للقفز خارج حدود ومنطقة الدول التي تخشى الصحافة الحرة.
تدرك الدولة الأردنية أن زمن السيطرة على وسائل الإعلام في زمن "السوشيل ميديا" وثورة الاتصالات ليس أكثر من وهم مهما ابتكرت من تشريعات، ومهما أرهبت الناس، وأن الخيار الوحيد المتاح لها أن تملك شجاعة المصالحة مع وجود إعلام مستقل، وأن تُخضع كل من ينتهك حرية الصحافة والصحفيين للمساءلة حتى يتوقف نهج الإفلات من العقاب.
حرية عالقة للإعلام في الأردن ليست قدرا مكتوبا لا انفكاك ولا خلاص منه، وإنما تعبير عن حالة التيه السياسي والارتباك وتأجيل التحولات التي لا مفر منها، والخروج من هذه الحالة لا يتطلب سوى إرادة سياسية ناجزة تنتصر للمستقبل على حساب قوى الظلام والشد العكسي. الحرة
مدار الساعة ـ نشر في 2019/08/15 الساعة 17:05