فايز الطراونة: حكاية بنكهة القهوة
بالإصرار ستصل، و بالجد والكد ستظفر، فلا مرمى بغير رام، ولا فرس بغير فارس، ولا فجْر بغير ظلام.
حكاية اليوم حكاية لذيذة كنكهةِ القهوة وعبقها، شهية كنشوة مرتشِفها، حكايةُ تجّلت لتروي حياة أحد أعمدة السياسة التي لم يدرسها قط، لكنها وإياه صنوان، آنسته فألفها، وروضته فعشقها، عاشرته فصنعت ما صنعت لتصبح حياته زورقًا، شراعه الوفاء، وهيكله النشأة الأردنية الكركية العريقة، المتأصلة من نبع انتماء لا ينضب، ومن نهر عطاء متجذر من جِدْ إلى والد كادحين، مثالين للنزاهة والصرامة، لا يُسَاومَان على حق.
فايز الطراونة عماني النشأة، كركي الفكر، أردني العروبة، ابن أبيه، أحمد باشا الطراونة – رحمه الله - أحد رجالات الرعيل الأول، البدوي الجريء الصارم النزيه، الذي لا يفصله عن العدالة حجاب، القاضي الشاب، الرائد في علم القانون، الذي صاغ الدستور وشرعّه، حتى لُقب "رجل الدستور الأول"، و"مرجع الدساتير"، تولى مناصب رئاسية ووزارية ونيابية رفيعة وكثيرة.
ولد عميد السياسة الأردنية فايز الطراونة في عمان في 1 أيار 1949 يوم العمال العالمي، لأُسرة متوسطةِ الحال، مكونة من خمسة أفراد، هو أصغرهم سنًا. نشأ الطفل فايز بين أخيه هشام الذي يكبره بخمسة أعوام، وأخته فايزة التي تكبره بعامين، والتي كانت الأقرب إليه، فقضيا معًا طفولة تآلف ومرح، إذ كان يلهو بلعبها.
كان طفلاً هادئاً حيناً، ومشاكساً حيناً آخر، ترعرع في منزل والده الذي يقع في الدوار الأول - أحد أحياء عمان العريقة - درس في مدارس المطران الصارمة في تدريس اللغة الانجليزية، نهاره حافل بالنشاطات المدرسية اللامنهجية وليله عامر بالمذاكرة، فلا وقت لمناكفة الأصدقاء والرفاق، مقضياً وقته بين نظام مدرسي صارم، ونظام أسري منظم ومرتب؛ انصب اهتمام الوالد على الاستثمار في تعليم أبناءه الثلاثة أجود تعليم، فلم يهتم بجمع المال، ولم يُسجل لوالده طيلة حياته أية قطعة أرض في عمان.
امتلأت دماء الشاب فايز الطراونة الاجتماعية والثقافية والعائلية بكم وافر من المادة السياسية والدبلوماسية التي خاضها والده، في منزل لا يخلو زائروه من السياسيين والقادة، حتى صقلته وأنضجته ليسير على دربهم، منتهجاً نهجهم، في طريق شاق لا يخلو من كد وتعب، لكنه طريق ثري مثمر، مفعم بلغة الانتصار التي لا يعرفها إلا من استقرأها.
في عام 1971 حصل عميدنا على درجة البكالوريوس في الاقتصاد من الجامعة الأردنية وعُين مساعداً لرئيس التشريفات الملكية، وفي عام 1974 حصل على درجة الماجستير في الاقتصاد من جامعة جنوب كاليفورنيا، وفي 1980 نال الدكتوراه في التخصص ذاته ومن الجامعة ذاتها.
وبين عامي 1980 و1984، عين سكرتيرًا اقتصاديًا ثم مستشاراً اقتصاديا لرئيس الوزراء ، وفي عام 1988، شغل منصب وزير الصناعة والتجارة والتموين في حكومة القطب زيد الرفاعي.
ومن عام 1993 حتى 1997، شغل منصب سفير الأردن في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان عضوًا ثم رئيساً فاعلًا في مفاوضات السلام الأردنية الإسرائيلية (اتفاقية وادي عربة)، ثم عمل وزيرًا للخارجيـة في حكومة عبد السلام المجالي الثانية.
عام 1998 شغل منصب رئيس الديوان الملكي الهاشمي، ثم صار رئيساً للوزراء ووزيرًا للدفاع للمرة الأولى خلفاً للقامة عبد الكريم الكباريتي، إبان تلقي المغفور له علاجه في الولايات المتحدة الأمريكية ، وكان جلالته قد أوصاه بضرورة تولي مهمة نقل السلطة بصورة سلسة وسريعة، بعيداً عن التعقيدات.
وكان هو من أشرف على ترتيبات الجنازة التي أُطلق عليها جنازة العصر، واستقبل الطراونة بحكم منصبه آلاف الوفود من الملوك والرؤساء والقادة لتشييع جثمان الغالي الحسين، ثم أشرف على تنفيذ الإجراءات الانتقالية لولاية العهد إلى جلالة الملك عبدالله الثاني، في واحدة من أكثر الحقب السياسية عسرة وشدة، والتي انتهت على خير ما يجب.
كما كان عضوًا ونائبًا لرئيس مجلس الأعيان الثامن عشر حتى المجلس الخامس والعشرين .
في عام 1999 ابتعد قليلًا عن السياسة ليشغل منصب رئيس مجلس أمناء جامعة الحسين بن طلال، ورئيس مجلس أمناء جامعة آل البيت في العامين 2009 و2010، ثم رأس مجالس إدارات عدد من الشركات.
وفي 26 من نيسان عام 2012 عُهد إليه بتشكيل حكومة جديدة للمرة الثانية، خلفاً للقاضي عون الخصاونة، وقد حرصت حكومته على تحقيق أهداف واضحة كالإصلاح الاقتصادي، وإنجاز قانون الانتخابات، وتشكيل الهيئة المستقلة للانتخاب، وفي 28 كانون الثاني 2013 عاد دولة فايز الطراونة ليشغل و للمرة الثانية منصب رئيس الديوان الملكي العامر، الذي لا يزال يتولاه بكل انتماء وولاء.
يحمل دولة الطراونه وسام الاستقلال من الدرجة الثانية، وآخر من الدرجة الأولى، ووسام النهضة ، و وسام الحسين للعطاء المميز.
أبو زيد، القيادي البارز، والاقتصادي المتمرس، والسياسي والمفاوض والدبلوماسي المحنك، القادر على مسك زمام الأمور حين تُعهد إليك، الذي ينأى بنفسه عن الخصومات والمنازعات، الصريح والصادق، المتفائل رغم كل المواجع، ورغم معاكسة الظروف، لا تفارقك الدماثة وخفة الظل أينما حللت، وحيثما كنت، تبقى حكايتك بنكهة القهوة مستطابة لقارئها، ملهمة لمستمعها.
Laila00300@gmail.com