سياسة خارجية تستحق التقدير
قبل عشرين عاماً ونيّف اعتلى جلالة الملك عبدالله الثاني ابن الحسين عرش الأردن، وثبت أقدامه فيه، وأرسى أمن الأردن وأمانه.
ومن أجل التقييم، لا بد أن نسأل السؤال التالي: كيف كان الأردن سيكون لو أن الأردن فشل في اجتياز الاختبارات الصعبة الناجمة عن الظروف الإقليمية والدولية المحيطة به والمؤثرة عليه. إن أي فشل لو حصل في أي من هذه الأمور لأورث الأردن كوارث كبيرة.
وللتذكير، فالأردن واجه تحدي وفاة جلالة المغفور له بإذن الله الحسين بن طلال، واعتلاء جلالة الملك عبدالله الثاني على العرش في وقت كان نادرا ما يظهر فيه على الساحة العامة. وظن البعض أن الفراغ الكبير الذي تركه الراحل الحسين بعد (47) عاماً من الحكم لن يكون تجسيره سهلاً، وسوف يتكاثر المتربصون. ولكن الملك الشاب سرعان ما أثبتت قدرته على المحاورة والمناورة، وتمكن خلال فترة وجيزة أن يؤكد منعة الأردن، وثباته على الحق الأردني في الحياة الكريمة، والحق الفلسطيني. وكوّن لنفسه هوية خاصة به وبرامج اطلقها أكسبته احترام العالم وجوائزه. وما كاد ينقشع الغيم حتى ظهر خلف الأفق فارس هاشمي يشار له بالبنان، ويجلس مع كل قادة الدنيا، ويخاطب الزعماء، ويحارب التطرف، ويدعو للاعتدال، ويجسّد افكاره في كتب وأوراق نقاشية.
ولا أنسى أنني عام (2000) كنت ألقي محاضرات كل خميس في جامعة هارفارد، وألتقي في نادي الأساتذة بكثير من العلماء المرموقين الفائزين بجوائز نوبل وغيرها، ممن يشيرون إلى الملك عبدالله وأسرته بمنتهى التقدير والإعجاب. ويقولون لو أن كل القادة المسلمين يقدمون أنفسهم للعالم بهذا المستوى الرفيع من التسامح والتفهم والوسطية، لكان للمسلمين وضع مختلف أفضل عشرات المرات مما هو عليه آنذاك.
وبعدما حقق الأردن لعدد من السنوات معدلات نمو مرتفعة، حلت الأزمة الاقتصادية العالمية، وتراجعت معدلات النمو والمساعدات والاستثمارات، وارتفعت البطالة وهبطت الحوالات الخارجية، وفي قمة السعي للحفاظ على التوازن الاقتصادي انطلق الربيع العربي في أقطار كثيرة حولنا وتحول في بعض الدول إلى حروب أهلية طاحنة، وصار الجوار كله مشتعلاً. وبدأ تدفق اللاجئين الراغبين في حضن آمن فساقتهم رغبتهم في الحياة إلى بلد أمين آمن كريم وهو الأردن، وحمل معه هذا التدفق الهائل اعباء كبيرة في الموازنة، والبنى التحتية، والتعليم، والصحة، والمياه، والبيئة، والازدحام، والأمن، والدفاع، وغيرها من الأمور.
وتعرض الأردن كذلك لعدد من الهجمات الارهابية التي سعت إلى إظهار هشاشته، كما مورست على الأردن ضغوط هائلة ليصطف مع هذا الفريق أو ذاك. وطلب منا أن نشارك في أعمال ما كنا مقتنعين بها، ومنذ الانقسامات المتتالية في الوطن العربي والإقليم، وازدياد الصراعات الدولية حدة في منطقتنا، استطاع جلالة الملك أن يبقي الأردن مركز وفاق وتوفيق بين العرب لمن رغب في ذلك، وسعى لفتح حدوده مع العراق وسورية، ولم ينحز إلى أي فريق خاصة اذا عكس هذا الانحياز الخلافات العربية الداخلية حفاظاً على توازنه وتوازن مصالحه.
وأخيراً جاءت حرب اليمن وحرب ليبيا، واندلاع الأزمات في الجزائر والسودان، والأردن يدافع عن الخصوصية العربية. ووسط اجراءات التوسع الإسرائيلي، وقرارات ترامب المتعلقة بالقدس وغزة واللاجئين والأونروا والجولان وصفقة القرن، نجح في الحفاظ على مبادئه الأساسية وخطوطه الحمراء.
لو عملنا مصفوفة أكاديمية لكل القرارات التي اتخذها جلالة الملك من الحفاظ على المبادئ، وتعزيز الوسطية، والتمسك بالحق الفلسطيني، والحفاظ على القدس، والتعامل مع المتناقضات بموقف واضح، أو بإجراءاته السياسية التي انحازت للحق (ضد الإسلاموفوبيا، ضد الإرهاب والتطرف، وضد السعي للنيل من الاخوان المسلمين، وضد التمييز بين أهل الديانات، وضد التدخل في شؤون الغير) لرأينا أن جلالته قد أبلى بلاء حسناً مميزاً.
ولو تابعنا مرونة سياسة الملك عبدالله الثاني في الحفاظ على الحوار مع كل قادة العالم وتجمعاته، وفي النجاح بتذكيرهم بأهمية الأردن موقعاً وسياسة واستراتيجية وثقافة وحضارة وتاريخاً وجيوبولتيكا، فمن كان سيأبه بنا؟
هنالك الكثير الذي نشكر الله عليه، والأردن رغم كل ما يثار من تحليلات أن الأردن فقد دوره لأنه لم يعد وسيطاً بين إسرائيل والخليج، أو أن الخيار بين الحكم والدولة وغيرها من فذلكات وفلسفات، الأردن هو من أقوى الدول العربية، ومستقبله واعد، ووضعنا المستقبلي يحمل بشائر رغم الشدائد التي نمر بها.
الغد