النصوص المؤسسة للدولة المدنية.. صحيفة المدينة وحوارات السقيفة نموذجاً
كثيرا ما يطرح السؤال التالي: هل الدولة في الاسلام دولة ثيوقراطية أي ديينة يحكمها رجال الدين أم دولة علمانية أم مدنية؟
وقبل مناقشة هذا الموضوع لابد أن نؤكد أن كل واحد من هذه النماذج يقوم على ثلاثة أركان رئيسة، هي الأرض والشعب والحكومة، لكنها وأن اشتركت من حيث المبدأ في هذه الأركان الثلاثة الا أن لكل منها فهمه الخاص للركن الثالث أقصد نوع الحكومة أو شكل النظام السياسي. فالدولة الثيوقراطية تعتمد مبدأ الحق الالهي المقدس للملك في الحكم كما كان سائدا في اوروبا في العصور الوسطى، حيث الحاكم ظل الله في الارض، وهو نائب عن الله يتسم بالقداسة وبالعصمة.
أما في العصر الراهن، فهناك دولة اسلامية ثيوقراطية تعتمد ما يسمى بولاية الفقيه وهي ايران، اذ تعتبر آية الله المرشد الاعلى نائبا عن الامام الغائب حسب اعتقاد الشيعة ، لأن غيبته قد طالت ولايجوز ترك المسلمين بدون امام ، لأن المذهب الشيعي يعتبر الامامة ركنا سادسا رئيسا من اركان الأيمان في الاسلام. أما النمط الثاني فهو الدولة العلمانية ، وهي ردة فعل على النمط الثيوقراطي الذي بدأ نفوذه ينحسر بعد الثوررات الأوربية على الكنيسة المتحالفة مع طبقة الاقطاعيين، والتي ما عاد مسموحا لها التدخل في السلطة الزمنية، وأنما انحصرت مهامها في المجال الروحي فقط.
من أهم ميزات هذا النمط من الحكم، هو التركيز على النواحي الدنيوية، وإبعاد الدين عن الأمور السياسية، وحيادية الدولة تجاه جميع المعتقدات، وترك الحرية لأتباعها بممارسة طقوسهم أو شعائرهم دونما تدخل من الحكومة، والتعامل مع المواطنين على أساس المواطنة وعلى أساس المساواة في الحقوق والواجبات التي ينظمها الدستور والقوانين الصادرة بموجبه.
ورغم هذه الصفات، فإن الحكومة العلمانية تمنع أي مظهر أو رمز من المظاهر أو الرموز التي تميّز طائفة عن اخرى في مجالات العمل العام ومؤسسات الدولة ، كالمدارس والجامعات ودوائر الحكومة، ومثال ذلك نوع اللباس، كالحجاب وما شابهه. كما أنها وأن أخذت بالتداول السلمي للسلطة من خلال الانتخابات الديمقراطية، الا أن العسكر يتدخلون أحيانا في الامور السياسية، وقد يلجأون للانقلابات العسكرية بحجة حماية العلمانية كما كان الحال في تركيا ما قبل أردوغان.
أما النوع الثالث فهو الدولة المدنية التي كثيرا ما يدور الحديث عنها بين وقت وآخر، فهي شبيهة في كثير من الصفات بالدولة العلمانية من حيث موقفها بتحييد الدين وعدم زجه بالأمور السياسية، كون الدين وخاصة في المجتمعات المتعددة الأديان والطوائف قضية جدلية. من صفات هذا النموذج ، المساواة في الحقوق والواجبات وقبول الآخر، والـتأكيد على مبدأ المواطنة بغض النظر عن الدين واللون والعرق والجنس، وعدم خلط الدين بالسياسة ، وانما تحترم جميع الأديان وتعتبرها شأنا شخصيا لا علاقة للدولة به . كما أنها وان كانت تشترك مع الدولة العلمانية في كثيرمن الخصائص، الا أنها تمتاز عن العلمانية بعدم وجود أي دور للعسكر فيها، فالدولة المدنية يحكمها مدنيون لاعسكر، وتعتمد الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة منهجا من خلال اجراء انتخابات حرة ونزيهة وشفافة.
لقد قصدت من هذه المقدمة الطويلة نسبيا التمهيد لموضوع عنوان هذه المقالة وهو صحيفة المدينة وحوارات السقيفة كنصوص مؤسسة للدولة المدنية في الاسلام ، وكنموذج للحكم السياسي الأسلامي مقابل نماذج الحكم التي سبق ذكرها ، حيث يقول الاسلاميون انه لا دولة دينية في الأسلام يحكمها رجال الدين ، وأنما الحكومة في الأسلام حكومة مدنية كما طبقها الرسول (ص) من خلال وثيقة أو صحيفة أو دستور المدينة ، بينما يرى بعضهم بأنها حكومة مدنية ولكن بمرجعية اسلامية دونما تحديد لهذه العبارة التي يرى فيها أنصار الحكومة المدنية أنها نسف لأساس الحكومة المدنية ، والالتفاف عليها ، وتفريغها من محتواها المدني.
وفي هذا الاطار لابد من الاشارة الى اختلاف مدلولات بعض المصطلحات المستخدمة قديما عن معانيها ومدلولاتها حديثا . فمثلا كلمة دولة أو حكومة لم تكن متداولة لافي عهد الرسول (ص) ولا في صدر الأسلام وأنما كان التعبيرالمتداول هو "الأمر" ( ان هذا الأمر ، أولي الأمر ) . كما لم ترد في القرآن الكريم بالمعاني السياسية المتعارف عليها اليوم . فكلمة دولة وردت في القرآن الكريم كما يلي :(لكي لايكون دولة بين الأغنياء منكم ) والمقصود هنا عدم تركز رأس المال في أيدي فئة أو طبقة محدودة تتداوله فيما بينها . والأمر الثاني لم يحدد القرآن الكريم ولا الرسول (ص) ولا الخلفاء من بعده نوعا أو شكلا محددا للحكم ، والا لكان أحتج به الصحابة في سقيفة بني ساعدة عندما دار الحوار حول حق كل من المهاجرين والأنصار في الأمارة بعد وفاة النبي عليه السلام. فما جرى من تسميات للحاكم بعد وفاة الرسول (ص) هي اجتهادات بشرية بدأت بمصطلح خليفة رسول الله ، ثم أمير المؤمنين ، ثم أخذت فيما بعد مسميات جديدة كأمام (علي) وسلطان وملك وأمير وغير ذلك .كما أن أسماء الدول أخذت خلال التاريخ الأسلامي أشكالا مختلفة مع الزمن ، فمن خلافة الى سلطنة الى مملكة الى أمارة . كما أن كلمة أو مصطلح أمة بالمعنى السياسي والقانوني المتعارف عليه اليوم لم يكن موجودا ، وأنما كان يستخدم كما جاء في القرآن الكريم في البرهنة على الزمن كقوله تعالى (ولئن أخرنا عنهم العذاب الى أمة معدودة ) ، أو بمعنى جماعة كقوله تعالى (ووجد عليه أمة من الناس يسقون ) ، أو بمعنى الرجل المقتدى به كقوله تعالى (ان ابراهيم كان أمة ) ، أو بمعنى الشريعة أو الطريقة كقوله تعالى (انا وجدنا آباءنا على أمة) . وبناء على ما سلف يجب أن نأخذ بعين الأعتبار اختلاف معاني تلك المفاهيم اليوم عنها قديما عند مطالعتنا لمحتوى ومفردات كل من الصحيفة وحوار السقيفة.
تعتبر صحيفة المدينة أول نص مكتوب أرسى ونظّم العلاقة بين سكان المدينة من مسلمين ويهود ومشركين ،اذ كانت بمثابة عقد اجتماعي نظّم العلاقة بين سكان المدينة على اختلاف أطيافهم الدينية والقبلية ، وحددت الحقوق والواجبات لكل طرف . ومن يقرأ نصوص هذه الوثيقة (موجودة على الشبكة العنكبوتية ) يلاحظ ذلك رغم صعوبة وغرابة بعض المفردات غير المألوفة لدينا ، لأنها تعكس نمط الثقافة السائدة في ذلك الزمان . فقد نصت الصحيفة على جملة من المبادىء منها:
1ـ أن المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم أنهم (أمة) واحدة من دون الناس.
2ــ المهاجرون يتعاقلون (العاقلة هي الدية عن القتل الخطأ) معاقلهم الأولى ، وكل طائفة تفدي عانيها (أسير الحرب ) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
3ــ لايترك المؤمن مفرحا (الشخص المدين كثير العيال ) بينهم وأن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل .
4 ــ المؤمنون على من بغى منهم ولو كان ولد أحدهم .
5ــ من تبع من اليهود فله النصرة والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم. لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، وكذلك ليهود بني عوف وبني الحارث وبني ثعلبة 6ـــ وأنه من اعتبط مؤمنا قتلا عن بيّنة فانه قود به ، الا أن يرضى ولي المقتول (أي حق القصاص بالمثل الا اذا أسقط عنه ولي المقتول) .
7ــ لا يحل لمؤمن أن ينصر محدثا (مجرما ) ولا يؤويه ، وأن نصره عليه لعنة الله وغضبه الى يوم القيامه .
8ــ وأن بينهم أي المؤمنين وسكان المدينة من يهود وغيرهم النصرة على من حارب أهل هذه الصحيفة.
9ــ ما أختلفوا فيه من شيء(أهل المدينة جميعا بغض النظر عن معتقداتهم ) فأن مرده الى الله عز وجل ورسوله .
هذه بعض نصوص الوثيقة والتي أرست قواعد وأسس العيش المشترك بين كافة أطياف ساكني المدينة مسلمين ويهود ومشركين ، فالكل مواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات بما في ذلك الدفاع في حالة الخطر الخارجي ، وفيها يتجلى مبدأ التعايش السلمي بين أتباع العقائد ، والتكافل الاجتماعي فيما بينهم في مساعدة المحتاجين ، واحترام معتقدات الآخرين ، فلا اكراه في الدين ، فلكل أماكن عبادته التي يمارس فيها طقوسه وشعائره بحرية تامة. كما يلاحظ عدم ذكر أي شكل من أشكال الحكم في هذه الصحيفة لا تلميحا ولا تصريحا ،ولم يذكر فيها أسم شخص باستثناء الرسول( ص) كمنشأ لهذه الصحيفة وحكم بين جميع الاطراف يلجأون اليه للتحكيم بينهم عند نشؤ الخلافات .
والنص الثاني هو حوارات السقيفة حول الخلافة بعد وفاة الرسول (ص) حيث كانت المفردات المستخدمة بين الانصار والمهاجرين مفردات دنيوية وليست دينية. فقد قال سعد بن عبادة زعيم الانصار خلال الحوار حول أحقية الخلافة : اما بعد ، فنحن أنصار الله وكتيبة الاسلام ، وأنتم معشر المهاجرين رهط ، وقد دفت دافة من قومكم ، فاذا هم يريدون أن يختزلونا من أصلنا ، وان يحضنونا من الأمر(أي يحاولون أن يسيطروا علينا ويحرموننا من حقنا في السلطة ) . ثم تكلم أبو بكر فقال : أما بعد ، فما ذكرتم من خير فأنتم أهله ولم تعرف (العرب) هذا الأمر(الحكم والسلطة أو الزعامة ) الا لهذا الحي من قريش ، هم أوسط العرب نسبا ودارا ، وقد رضيت لكم أحد هذين الرجلين أنهما شئتم ، عمر بن الخطاب وأبو عبيدة ابن الجراح . فقال الحباب بن المنذر : أنا جذيلها المحكك وعذيقها الموجب (أي أنا داهيها ) (منا أمير ومنكم أمير) . فقال عمر : نحن أي المهاجرين (الامراء) وأنتم أي الأنصار(الوزراء )، هيهات أن يجتمع اثنان (اي المهاجرين والانصار) في قرن( أي في الامارة أو السلطة ) ، والله لاترضى (العرب) ان يؤمروكم و(نبيها ) من ( غيركم ) ولنا الحجة بذلك على من أبى . فقام الحباب بن منذر قائلا : يا معشر الأنصار ، لاتسمعوا مقالة هذا (عمر) وأصحابه(المهاجرين ) فأنتم ( أي الأنصار )أحق بهذا( الأمر ) منهم . فحدث هرج ومرج وأرتفعت الأصوات ، وعندئذ أخذ عمر يد أبي بكر فبايعه ، وتبعه بعض من كان موجودا من الصحابة .
ان الملاحظ في هذا الحوارات أنها حوارات مدنية لا دينية، والمفردات المستخدمة فيها مفردات سياسية لادينية ، فلم يأت ذكر لأي نوع من أنواع الحجاج الديني من قبل قريش ، وأنما كان منطقها يحتج بأن الأمارة أو القيادة أو الزعامة هي تاريخيا لقريش، وأن الرسول منهم ، وأنهم أحق بوراثته سياسيا، وهو منطق أقرب الى المنطق القبلي والعشائري منه الى المنطق الديني ، في حين كانت حجة الأنصار فيها مسحة دينية بقولهم نحن أنصار الله وكتيبة الأسلام . ان منطق الأنصار هذا ، كان الأولى أن يكون هو منطق قريش، لأن الرسالة نزلت على رسول منهم، وأنهم هم المدافعون عنها ، وحملتها وناشروها ومبلغوها للآخرين.
وكخلاصة للموضوع ، فأن نصوص الصحيفة ومن بعدها حوارات السقيفة كانتا نصوصا مؤسسة لنمط الحكم في الاسلام ، وهي تشبه القواعد الدستورية العامة اليوم التي تحكم العلاقة ما بين الحاكم والمحكومين ، أو بين القيادة السياسية والشعب ، قواعد في تعابيرها وفي مضامينها مدنية الطابع. أما الحاكم سواء أكان خليفة أو أميرا أو غير ذلك من المسميات فليست له صفة دينية ، وأنما هو انسان يتم أختياره وعزله من قبل الناس، وهو غير معصوم ، وأنما كأي انسان يخطأ ويصيب ، وقد أكد على هذه الصفات الخليفتان الأولان أبو بكر وعمر في خطبتيهما بعد البيعة اذ قال أبو بكر: لقد وليت عليكم ولست بأفضل منكم ، أطيعوني ما أطعت الله ، فأن عصيت الله فلا طاعة لي عليكم. كما قال عمر : من رأى منكم في أعوجاجا فليقومه بيده ، وكذلك كان حال الخليفتين الثالث والرابع رغم ما جرى في عهديهما من تغير في أحوال المسلمين تمثل في الصراعات السياسية التي أدت فيما بعد الى الصراعات المسلحة.
أما ما تلا ذلك من أنماط حكم طيلة التاريخ السياسي الإسلامي فلم تكن لها من صفات الخلافة الإسلامية الراشدة الا الأسم ، وأنما كانت كما قال الرسول (ص) ملكا عضوضا وحكم عائلات أو أفراد مارست الحكم بأساليب مدنية على مستوى الداخل الاسلامي وعلى مستوى التعامل مع الدول غير الاسلامية.