ماذا يعني أن تزور الصين؟

مدار الساعة ـ نشر في 2019/04/21 الساعة 02:09

أول مرة أزور الصين، وبلا شك منذ زمن أحلم بزيارة الصين، ومن منا لا يحلم بالصين ؟ والدعوة قد جاءت بالالحاح المتكرر من السفارة الصينية، ولتكون على جدول اولويات الاستجابة. لقد كان المشهد مدهشا منذ حطينا في بكين، وهي مدينة أطالعها لاول مرة. لم اكن اتوقع عاصمة شيوعية متزمتة مبانيها ضخمة وقاسية الملامح، ولها طابع عمراني عصري، ناطحات سحاب عملاقة، تنافس أحدث المدن وتضاهيها في البنى التحتية والخدمات. ودونما أن تنسى اللمسة الصينية التراثية والعريقة بالديكور والالوان المتعددة.
في الزيارة جمعتنا لقاءات في جمعية الصداقة الصينية مع الشعوب الاجنبية ومركز للدراسات الاستراتجية والبحثية، وكلية دراسات اللغة العربية وعلومها، وبطبيعة الحال دارت نقاشات مع مجموعة من الدبلوماسيين والباحثين والاكاديميين حول المعجزة الاقتصادية الصينية التي تكبر يوما بعد يوم، والسؤال عن العلاقات الاردنية والعربية -الصينية، ومبادرة الحزام والطريق الاستراتيجية التي اطلقها الرئيس الصيني شي جين بينغ عام 2015، وفكرتها تقوم على أحياء طريق الحرير للقرن الحادي والعشرين.
والحق أني كنت اتابع بحثاثة كل ما يقال عن مبادرة الحزام والطريق، فكل ما نلتقي مسؤولا ودبلوماسيا ومفكرا صينيا الا ويتوقف عند المبادرة الاستراتيجية، ورؤيتها الحضارية في تغيير وجه اسيا ونقلها الى عصور الحداثة. المبادرة منطلقة من مشروع حضاري وتاريخي ويعود الى الفي سنة، وهو طريق الحرير الذي كان يمتد من الصين عبر اسيا الوسطى الى شواطئ المتوسط، ومن هناك يمتد بحرا الى اوروبا التي كانت تستقطب البضائع الاسيوية الثمنية في حينها من لؤلؤ وبهارات وزخارف وحرير صيني.
الاقتصاد الصيني اكثر نموا في العالم، وقد حقق على مدار اعوام متتالية أعلى معدلات نمو، وفاقت كل التوقعات. ولا يوجد بلد في العالم يواصل الصعود في سلم التقدم بهذه السرعة. ولا يوجد بلد يمازج بين لعبة السياسة والاقتصاد بالمهارة الصينية. تصنع طائرات وتغزو الفضاء على الطريقة الصينية، وتستثمر في موانيء استراتيجية من شرق اسيا الى قلب اوروبا في بلجيكا الى سواحل المتوسط في حيفا، واكبر بلد يستحوذ على نفوذ اقتصادي في افريقيا، وتشتري حقول نفط في السعودية وروسيا، وتقيم أكبر مشاريع الطاقة البديلة في العالم.
طريق حزام مبادرة تأتي في إطار خروج الصين من عنق أزمات جيوسياسية. ومنها تمكين الولايات الداخلية من الانخراط في الاقتصاد العالمي، وربط وتعزيز انتماء الولايات الحدودية البرية والبحرية وزيادة المساواة الاقتصادية، وخصوصا مناطق شينغيانيغ «تركتسان الشرقية سابقا « ومناطق التبت التي يقطنها أقليات مسلمة.
للمبادرة ذراع اقتصادي، وهو البنك الاسيوي لتنمية البنية التحتية، والذي تساهم الصين بحصة الاسد فيه. وهو المدخل الرئيس للمشاركة في المباردة ومشاريعها الاستراتجية الضخمة، والتي تقوم على خطوط عريضة دعت الصين دول اسيا والعالم الى الانضمام وسيعقد مؤتمرها الثاني في غضون الايام المقبلة بمشاركة 37 دولة اسيوية وعربية، ومن العالم الثالث، ومن أرجاء العالم، وبالطبع فان الولايات المتحدة تقاطعه.
الصين أكثر ما تبدو في العلاقات الدولية تنين تثاءب من السبات، وطرد كل الاوهام، واستيقظ ليكون على منصة القطبية الأممية. الصين في كل بلاد العالم، وكما هم موجودون فانهم مهتمون بادارة علاقاتهم الدولية الاقتصادية والسياسية بمزاوجة مهارة وعبقرية.اقتصاد قوي ينمو بسرعة، ويصنع منتج علامة صنع في الصين تعبيرا عالميا، كل ما تتخيل يصنع في الصين من إبرة البابور الى القمر الاصطناعي ومكوك الفضاء.
في الرحلة دخلت اكثر من مطعم صيني، التأقلم مع الأكل الصيني صعب قليلا، ولكني كنت فرط الشهية في تناول البط اللذيذ والاسماك الطازجة الشهية، والمقبلات الباردة من حشائش ونباتات واعشاب على مرمى الاعين تراها في السهول والوديان، ولتتحول الى رفيق على موائد الطعام الثرية والغنية بالتنوع الغذائي الصحي.
تتفاجأ في الطريقة وكمية الطعام الذي يتناوله الصينيون. فلسفة الطعام لدى الصينيين تلفت الانتباه، فهم يأكلون قليلا، ويعملون كثيرا، هذه من الملامح الحضارية والانسانية للشخصية الصينية. فالصينيون مازالوا يحملون في أعماقهم ذكريات مخيفة من اثار مجاعات قديمة، عندما كانوا يقضون العام معتمدا على حساء الارز، وتلك الصورة القاسية التي قدمتها رواية صينية بيرل بيك في روايتها الارض، ذكريات تتحدى الاستهلاك والنهم والافراط والتبذير.أما حب العمل فهو من مركبات الثقافة الصينية والعقيدة الكونفشيوسية، والشيوعية فيما بعد عمقت من هذه المفاهيم، فالمواطن الصيني يعمل كالنحلة كما يقولون.
في رحلة الصين لابد من زيارة سور الصين العظيم، واحد من عجائب الدنيا السبع، ويحكي قصة صمود وكفاح ونضال شعب ضد الغزو الاجنبي والاستعماري. حرصت على الوقوف باعلى قمم السور المترامية على حوالي 6 الاف كليو متر. وهو المعلم الوحيد على الارض الذي شاهده رواد فضاء من القمر، كائن اسطوري ممتد يحتضن جبالا وسهولا واودية، بني كحلم للحصول الى الامان وحماية الديار الصينية من الغزاة.
و اكثر من فاجأني سائح صيني من تايوان كانوا ممنوعين لسنوات طويلة من زيارة الصين البلد الام، كما أبلغني، ولكن تغيرت الظروف والاحوال من اعوام بالانفتاح والسياسة الجديدة وسمح لهم بالتنقل وحرية الحركة، فسألته كيف عجز الصين العظيم عن احتواء جزيرة تايوان ؟ فرد ضاحكا ليس عاجزا وليست مصادفة تاريخية، ولا أظن ان الامور ستسمر طويلا، فتايوان ستعود الى حضن الوطن الام.
في الصداقة الصينية -العربية بلا شك هناك تاريخ من الروابط والوشائج الحضارية والانسانية. وسمو الامير الحسن بن طلال كان أول مفكر عربي يخط في مضامين استراتيجية وحضارية في العلاقة العربية -الصينية في منتصف ثمانينات القرن الماضي. وبالطبع مع مرور أكثر من ستة عقود على العلاقات الصينية -العربية فما زالت مع الاسف دون المستوى المطلوب.
وفي مؤتمر للعلاقات الصينية -العربية عقد في شنغاهي حضرت جزءا من فعالياته، وشاركت به دول بممثلين عن مراكز ابحاث ودراسات ودبلوماسيين، وقد حضره الرئيس اللبناني الاسبق ميشيل سليمان. فما زال العرب يحومون حول أشباح الوهم في العلاقات الدولية، ولا يجيدون مقارعة العالم الجديد بجدولة مصالحهم وقضاياهم الوطنية والاقليمية والاستراتيجية، والبحث عن استدارات عميقة تفك الحزام عن التبعية وقطبية الرجل الابيض الواحد في النظام العالمي.
الصعود السلمي للصين فرصة للعرب، فالصين حضارة عريقة تعي قيمة التاريخ الذي نتشارك به معا، وليس بيننا إرث من الحقد وعلاقات الدم والاستعمار، فالصين تسعى الى العالم دون نوازع استعمارية او دوافع للسيطرة، وهي فرصة عربية للاستعانة بصديق قوي، وفي وقت عز به الاصدقاء.
الدستور

مدار الساعة ـ نشر في 2019/04/21 الساعة 02:09