العتوم يكتب: مبادرة تطوير الجامعة الأردنية.. العصر الجامعي المـُؤلم المُحزن
مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/24 الساعة 09:01
مدار الساعة - بقلم: د. راضي العتـوم/ محلل اقتصادي
(مدير عام معهد الادارة العامة سابقا) بادئ ذي بدء، كل التقدير والاحترام لرئيس مجلس أمناء الجامعة، ولرئيسها، وللمجلس على هذه المبادرة، والتي إنّما تصوّر حالاً مؤلماً صعباً وصلت اليها جامعاتنا الحكومية (عدا الجامعة الهاشمية). واقتبس من كلمة دولة الدكتور عدنان بدران رئيس مجلس أمناء الجامعة بأن اطلاق المبادرة بات ضرورة ملحّة ليصبح الحرم الجامعي بيئة جاذبة صديقة للبيئة وللطالب وللأستاذ، ويقدم خدمات حيوية، تمكن الجامعة لتكون ذكية ومنتجة ومستقرة ماليا..الخ. وأشار الى أن الاستقرار المالي لا يتأتى إلا بالاعتماد على الذات، وليس بانتظار الدعم الحكومي الذي أصبح شحيحا لما تعانيه الحكومة من عجز ومديونية. كما وأحترم توجه رئيس الجامعة الدكتور عبد الكريم القضاة في اشارته الى أن قيمنا الدينية وأعرافنا الراقية هي روافد قوية للعمل الخيري التطوعي التكافلي، وأقدّرّ تعبيره ورأيه بقوله "إنه من غير الممكن الاستمرار في الاعتماد على جيوب الطلبة، والبقاء عبئا على موازنة الدولة". وأقف تقديرا واحتراما لما قالته الدكتورة نداء زقزوق بأن العلم، والأنبياء، والمال هم عصبٌ لقلبِّ الحضارة، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يتابعون النهج بالعلم والفكر والتنوير، مؤكدة أن المساجد دور عبادة وعلـــم. والحقيقة أن ما يؤلمني، كوني أحد خريجي هذه الجامعة بمرحلة الماجستير، أن تصل الجامعة الى هذا المستوى الاداري، والعلمي، والمالي. والواقع، فإن من تعاقب على رئاستها، ومجالس أمنائها، ووزراء التعليم العالي، وعمدائها، ومدراء دوائرها المتخصصة والتابعة الى رئاسة الجامعة يتحمّلون جميعهم هذا الواقع المؤسف. وأرجو أن يتسع صدر المعنيّون بجامعاتنا الحكومية الى تحليل أسباب ومكامن التراجع العلمي، والفشل الاداري، والمالي الذي تعيشه الجامعات الحكومية في المملكة. واليكم مكامن الفشل التالية (وهنا أستثني الجامعة الهاشمية فقط من هذا التحليل والتشخيص لأنها نموذج يجب أن يحتذى):- أولا: الخلل الفنّي ( العلمي والتعليمي)، وهذا يشمل:
الجامعات الحكومية عموما، بلا ضبط ولا تقيـيم ، والمتابعة فيها على جودة التدريس، واسلوب الأستاذ بالتدريس وبالتعامل مع الطلبة خجولة للغاية، والتمحيص لكيفية ونوعية أبحاث أعضاء الهيئة التدريسية محدودة وشكلّية، فالاستاذ يتمتع بحصانة من التقييم والتقويــم والمساءلة، والقصص والأمثلة كثيرة ومثيرة للاهتمام خاصة فيما يتعلّق بأصالة البحوث، وضعف دعم أبحاث طلبة الدراسات العليا المنفردة لدعم الفكر العلمي الشبابي وتوجيهه لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
الأعباء التدريسية الكبيرة على حساب جودة التعليم، فالسعي وراء المادة يدمّر مستوى التعليم ونزاهته ورسالته.
ضعف التطوير للمناهج وللتخصصات، وفقا لأنظمة الجامعة يحتاج طرح موضوع جديد الى القسم ومناقشته والاتفاق عليه، ثمّ رفعه الى مجلس الكليّة، فنائب الرئيس المعني، ثم مجلس العمداء، ورئيس الجامعة، وأحيانا مجلس الأمناء يأخذ سنوات، عندها يتقادم الموضوع عند اقراره. فالجامعة لا تستجيب بمرونة لحاجات السوق من التعليم.
أعضاء هيئة التدريس غالبا لا يتدرّبون، ولا يتابعون المستجدات، وأساليب تدريسهم تتخلّف كثيرا عن مستوى التدريب حتى بالمراكز التدريبية الخاصة الموجودة بالمملكة.
بعض أعضاء هيئة التدريس ينقصهم الكفاءة والاخلاص والانتماء للعمل؛ فلا تقتصر الكفاءة على اسم الجامعة التي تخرّج منها الاستاذ؛ وكمثال رأيته بأمّ عيني وقبل عشرين عاما (فكيف الآن)، كان اسوأ استاذ يدرس الطلبة ولا يفيدهم بشيء يُذكر هو أستاذ تخرّج من جامعة هارفرد، وآخر خريج مانشستر يضع علامات وفق تقديره دون تصليح الامتحانات، وثالث وكيل وزارة، ورابع مستوزر لا يقدمون الحدّ الأدنى للطلبة.
ما يعرف بسنة التفرغ العلمي (Sabbatical Year) يُستغل لغير تطوير البحث والعلم عموما، فيذهب الاستاذ للعمل بجامعة أخرى أو خارج المملكة؛ وهذا مغاير لأساس اعتماد هذا النهج لجامعات العالم المتقدم الذي يتمّ تقليده لمصلحة الأستاذ. وهنا أودّ الاشارة الى زيارتي لليابان عام 2006 في دورة تدريبية لمدة 43 يوما زرنا خلالها عدة جامعات، والكثير من المصانع لنجد أن لكل قسم هندسة وعلوم متخصصة بالجامعات بالمنطقة ممثل بالمصنع وذلك وفقا لطبيعة العمل والاختصاص، يقوم هذا الممثل على توليف ابحاث الاساتذة والطلبة لتطوير الانتاج، وذلك وفق تعاقد حكومي، وجامعي مع مؤسسة الأعمال (المصنع) لتطبيق توصيات ونتائج البحث بهدف تطوير الانتاج، وزيادة المبيعات، وبالتالي تقاسم المنفعة المالية للأطراف الثلاثة كمثلت تشاركي للتنمية. ثانيا: الخلل الاداري والتدخلات الخارجية، وهذا يشمل:
الجامعات الحكومية تضعف فيها سلطة الادارة لرئيس القسم وللعميد ولنوابه؛ والسبب هو أنه لا يستطيع ايقاع عقوبة على زميله لأن دائرة المسؤولية تدور فيما بينهم، ولذلك يتوقع ردة فعله عندما يتسلّم مسؤوليته. بهذا الواقع، يغيب التقييم والمساءلة لعضو هيئة التدريس.
التعيينات والتدخلات؛ من المعروف أن الكثير من الجهات الحكومية الظاهرة والمستترة تتدخل في تعيينات الجامعة، فأحيانا تُحرم الكفاءات من التعيين، وتعيّن المستويات العلمية التي لا تليق بالجامعة سواء الكوادر التعليمية أو الادارية والمالية والفنية. فعلى الرغم من أن أسس التعيين واضحة ومعلنة وتدعي الجامعات أنها شفافة، الا أن التطبيق عكس ذلك تماما، والتجارب كثيرة ومريرة.
ولديّ مثال صارخ على استاذ وزميل دراسة لي غاية بالتميّز، كان قد تخرّج من جامعة امريكية في أنقره METU، وتقدم للجامعة الأردنية بقسم الفيزياء عام 1996 -على ما أذكر، وبعد محاولات كثيرة ووصوله الى رئيس الجامعة، سمحوا له بتقديم طلبه والنظر فيه، ثم طلب القسم منه تقديم عرض أمامهم حول موضوع معيّن، فقدم هذا الدكتور عرضه للقسم، وسألوه أسئلة قال لي انها بمستوى طالب سنة ثانية، المهم لم يردّ القسم على تعيينه الا بعد عدة أشهر، مشيرا الى أنه جيد ولكن حين يتوفر مجال لتخصصه الدقيق، ولم يتعيّن في الوقت الذي عيّن بذات السنة غيره دون عرض ولا مقابلة...هذا الدكتور تعيّن بجامعة مؤته بعدها، وحصل على جائزة عالمية بالفيزياء، وقبل عام تعيّن عميدا لكليّة العلوم باحدى الجامعات الحكومية -غير مؤتــه، والقصص كثيرة عند الغير.
ندرة تطبيق الأنظمة والتعليمات وميثاق التعليم والأخلاق، وخاصة فيما يتعّلق بأسلوب التعامل مع الطلبة، ووضع العلامات، وتوجيه الطلاب للبحث وللدراسة الأمثل، وكذلك السلوك فيما بينهم، وضعف التعامل مع قدرات وموجودات الجامعة الواجب استثمارها بشكل متميّز.
ثالثا: الخلل بالادارة المالية والاقتصادية للجامعة والابتعاث، وهذا يظهر من أن:
الجامعات الحكومية لا تستغل استثمار موقعها الجغرافي المميّز؛ فالجامعة الأردنية تقع بعمان الغربية، وبمنطقة غاية في الحيوية تحيطها شوارع تجارية رئيسية.
تنفق الجامعات الحكومية مبالغ طائلة على الابتعاث رغم توفر خريجين حتى من الجامعات الغربية، وتطرح الكثير من الحجج الواهية، ولا توجد لديها آلية علميّة لتقييم المتقدم بطلب للتدريس، فقط أسماء الجامعات والدول التي تخرج منها هي المعيار؛ وهذا غير كافٍ ولا دقيق.
لم تخطط الجامعات الحكومية للاعتماد على مواردها الذاتية منذ تاسيسها؛ وهذا فشل اداري، ومالي يُعاب عليها جميعها، فالرسوم التي جبتها الحكومة من المواطن للجامعات لم تكن كفيلة بفطمها عن الاعتماد الرعائي لها، وهذا تكريس للاقتصاد الريعي ولكن للأسف في أرقى مستويات مؤسسات الدولة ما زالت تكرّس الريعيّة.
الانشطة الاكاديمية والاستشارية التي تقدمها الجامعات متواضعة، فالعمل بطريقة الاستاذ المحاضر لا يمكّنها من المنافسة بالسوق المحلي، ولا بالسوق الخارجي.
تعتبر سنة التفرغ العلمي (Sabbatical Year) والتي تمنح عضو هيئة التدريس راتب سنة كل خمس سنوات عمل كلفة وعبئا ماليا، وتحسب تلك النفقات -وعلى الرغم من أنها رواتب وعلاوات- على أنها إنفاق على البحث العلمي، وهذا واقعيا غير منطقي وغير صحيح، فالاستاذ لا يؤلف ولا يبحث بل يقضي العام في عمل تدريسي بجامعة أخرى. رابعا: خلل التعاون والافادة من الخبرات والقدرات من خارج الجامعة، وهذا يشمل:
ضعف التعاون مع القطاع الخاص والعام والمؤسسة العسكرية على السواء، فالجامعات إن لم تتعاون وبشكل حثيث مع مؤسسات الدولة لن يُستفاد من علمها، وتبقى تعاني الضعف المالي، كما تعاني مواكبة التطبيق للعلوم بالزراعة والصناعة والخدمات، وبالتالي بالانتاج الوطني للمملكة؛ أي الناتج المحلي الاجمالي GDP.
تنافس مراكز الاستشارات بالجامعات الحكومية على الأعمال الاستشارية يشوبه الضعف، والاستغلال أحيانا، وتحتاج الجامعات الى مزيد من تشاركية العمل مع مؤسسات الأعمال الزراعية والصناعية والخدمية الانتاجية. وأخيرا، ما هو الحلّ للجامعات الحكومية الأخرى، هل ستطلق مبادرة مماثلة، أم ماذا؟ والحقيقة المرّة التي تعاني منها جامعتنا كما المؤسسات الحكومية والعامة الأخرى بالمملكة هي ما يُعرف بأثر "نظرية الوكالة Agency Theory" وهي نظرية ماليّـة تلخص بشكل بسيط بالتالي : أن من يقوم على ادارة المؤسسة، إن لم يكن له مصلحة شخصيّة مباشرة بالقرار الذي سيتخذه، فلا يأبه بما سيخلّفه القرار؛ أي إن ربحت المؤسسة فماذا له؟، وبالمؤسسات العامة إن خسرت المؤسسة فلا يخسر شيئا، وبالتالي يمكن أن يتخذ قرارا في غير مصلحة المؤسسة سواء لارضاء الغير، أو لمصلحته ومصلحة من حوله، |أو استجابة للضغط من طرف معين..وهكذا.
وعليه، أعتقد أنه للخروج من واقع جامعاتنا الحكومية المؤلم العمل على الآتي:
1. اعتماد مؤشرات لقياس كفاءة عمل كل قسم / كليّة بالجامعة، وكذلك كافة الوحدات الادارية والمالية والوحدات الأخرى، وقياس فعالية أعمال الكليات بشكل موضوعي يتوافق عليه خبراء ومختصون من الجامعات ومن خارجها.
2. حساب تلك المؤشرات، ونشرها بكل شفافية، والاستماع لآراء المختصين والمهتمين بجولات نقاشية متعددة للوقوف على الحقائق، وبيان مواطن الخلل، والاعتراف بمكامن الفشل.
3. طرح البدائل للحلول، وأسس التقويم المناسبة، واقرار الحلول المُثلى لاعتمادها كمسطرة يجب تطبيقها وفقا لمرحل زمنية معينة تُمنح لكل جامعة وبحدّ أقصى خمس سنوات، على أن تؤخذ تلك الحلول بقرارات جريئة ومستقلّة من مجالس أمناء الجامعات.
4. أن تتخلى أجهزة الدولة الظاهرة والمستترة عن التدخل بالتعيينات، وبقبول الطلبة، والغاء كافة المكرمات للقبول حتى لأبناء العاملين بالجامعات. فيجب أن يسود التنافس الحرّ وعلى مستوى المملكة، فالمكرمات شوّهت مستوى الخريجين، وحطّت من مستوى التعليم وقيمته.
5. تنظيم القبول الموازي للطلبة كرافد مالي للجامعات الحكومية، شريطة أن لا يذهب الايراد للرواتب أو المكافآت بل يخصص لتعيين الكوادر العلمية الجديدة وعند الحاجة للتخفيف من البطالة.
6. اعادة النظر بسنة التفرّغ العلمي واقتصارها على الأعمال البحثية الموجهة للانتاج والتنمية فقط والتي تكون بالتعاون مع مؤسسات الأعمال من شركات زراعية وصناعية وخدمية هادفة الى تطوير المنتج R&D الدراسات والتطوير، ويمكن الافادة من تجربة اليابان بهذا الخصوص.
7. أن تستثمر الجامعات في اساتذتها، وموظفيها، وطلبتها المتميزين من الباحثين في انشاء وتطوير المشروعات التنموية المختلفة، ودعم الأفكار التطويرية التنموية.
8. أن تركز الجامعات الحكومية على استثمار مواقعها الحيوية استثمارا اقتصاديا مدروسا كموقع الجامعة الأردنية، وجامعة اليرموك، وجامعة مؤته والتي تتميّز بتربعها على أراضٍ داخل مراكز المحافظات.
9. تفعيل مراكز الاستشارات والتدريب بالجامعات، وتنظيم عملها والرقابة عليها بما يحفّز القائمين عليها وتوجيه طاقاتهم لتعظيم الفائدة للجامعة.
10. ايقاف الابتعاث للجامعات الحكومية ايقافا تاما، والاعتماد على المتوفر بالسوق باختيارهم وفقا لامتحانات علمّية وسلوكية ، ووفقا للتجربة العملية بالتقييم المتتابع لهم ولغيرهم من القائمين على التعليم جميعهم.
11. اقرار التقييم الفصلي للأستاذة ، بهدف التركيز على جودة التعليم، ونوعيّة الخريج، ومعاقبة التقصير، وأي سلوك ينافي العُرف التعليمي المثالي سواء بالجانب العلمي، أو الأخلاقي السلوكي للأستاذ أو الطالب.
12. اعادة النظر بالعبء التدريسي للأساتذة، فليس من المعقول أن يكون نصيب الأستاذ ست ساعات أسبوعيا، وللمشارك تسع ساعات...هذا غير منطقي، وهدر لأموال الجامعات كما تهدر كفاءة عملها.
13. تفعيل سلطة الادارة لرئيس القسم وللعميد ولنوابه وفقا لنظام العمل بالجامعة، واستنادا الى التقييم الموضوعي للكيان التدريسي المتواصل، فالثواب والعقاب أساس العمل الاداري الناجح، وأساس العدل بالحياة برمتها.
14. وأخيرا، نقل تجربة الجامعة الهاشمية، فعلى الرغم من موقعها الصعب استطاعت ادرتها انجاز ما لم تنجزة غيرها ممن هم بحال أفضل بكثير من موقعها وحالها؛ وذلك بتشكيل لجنة أو أكثر لقياس أداء، وتطوير لكل الجامعات الحكومية باشراف الشخص أو الأشخاص ذوو التجربة الناجحة، واشراك من يتطوّع للعمل معهم من الخبرات الأردنية المميزة والمتراكم التي نفتخر بها في وطننا.
وأخيرا، اسأل الله التوفيق لكل جامعتنا، والسداد لأصحاب القرار بها وبمؤسسات الوطن الغالي.
(مدير عام معهد الادارة العامة سابقا) بادئ ذي بدء، كل التقدير والاحترام لرئيس مجلس أمناء الجامعة، ولرئيسها، وللمجلس على هذه المبادرة، والتي إنّما تصوّر حالاً مؤلماً صعباً وصلت اليها جامعاتنا الحكومية (عدا الجامعة الهاشمية). واقتبس من كلمة دولة الدكتور عدنان بدران رئيس مجلس أمناء الجامعة بأن اطلاق المبادرة بات ضرورة ملحّة ليصبح الحرم الجامعي بيئة جاذبة صديقة للبيئة وللطالب وللأستاذ، ويقدم خدمات حيوية، تمكن الجامعة لتكون ذكية ومنتجة ومستقرة ماليا..الخ. وأشار الى أن الاستقرار المالي لا يتأتى إلا بالاعتماد على الذات، وليس بانتظار الدعم الحكومي الذي أصبح شحيحا لما تعانيه الحكومة من عجز ومديونية. كما وأحترم توجه رئيس الجامعة الدكتور عبد الكريم القضاة في اشارته الى أن قيمنا الدينية وأعرافنا الراقية هي روافد قوية للعمل الخيري التطوعي التكافلي، وأقدّرّ تعبيره ورأيه بقوله "إنه من غير الممكن الاستمرار في الاعتماد على جيوب الطلبة، والبقاء عبئا على موازنة الدولة". وأقف تقديرا واحتراما لما قالته الدكتورة نداء زقزوق بأن العلم، والأنبياء، والمال هم عصبٌ لقلبِّ الحضارة، وأن العلماء هم ورثة الأنبياء الذين يتابعون النهج بالعلم والفكر والتنوير، مؤكدة أن المساجد دور عبادة وعلـــم. والحقيقة أن ما يؤلمني، كوني أحد خريجي هذه الجامعة بمرحلة الماجستير، أن تصل الجامعة الى هذا المستوى الاداري، والعلمي، والمالي. والواقع، فإن من تعاقب على رئاستها، ومجالس أمنائها، ووزراء التعليم العالي، وعمدائها، ومدراء دوائرها المتخصصة والتابعة الى رئاسة الجامعة يتحمّلون جميعهم هذا الواقع المؤسف. وأرجو أن يتسع صدر المعنيّون بجامعاتنا الحكومية الى تحليل أسباب ومكامن التراجع العلمي، والفشل الاداري، والمالي الذي تعيشه الجامعات الحكومية في المملكة. واليكم مكامن الفشل التالية (وهنا أستثني الجامعة الهاشمية فقط من هذا التحليل والتشخيص لأنها نموذج يجب أن يحتذى):- أولا: الخلل الفنّي ( العلمي والتعليمي)، وهذا يشمل:
الجامعات الحكومية عموما، بلا ضبط ولا تقيـيم ، والمتابعة فيها على جودة التدريس، واسلوب الأستاذ بالتدريس وبالتعامل مع الطلبة خجولة للغاية، والتمحيص لكيفية ونوعية أبحاث أعضاء الهيئة التدريسية محدودة وشكلّية، فالاستاذ يتمتع بحصانة من التقييم والتقويــم والمساءلة، والقصص والأمثلة كثيرة ومثيرة للاهتمام خاصة فيما يتعلّق بأصالة البحوث، وضعف دعم أبحاث طلبة الدراسات العليا المنفردة لدعم الفكر العلمي الشبابي وتوجيهه لخدمة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
الأعباء التدريسية الكبيرة على حساب جودة التعليم، فالسعي وراء المادة يدمّر مستوى التعليم ونزاهته ورسالته.
ضعف التطوير للمناهج وللتخصصات، وفقا لأنظمة الجامعة يحتاج طرح موضوع جديد الى القسم ومناقشته والاتفاق عليه، ثمّ رفعه الى مجلس الكليّة، فنائب الرئيس المعني، ثم مجلس العمداء، ورئيس الجامعة، وأحيانا مجلس الأمناء يأخذ سنوات، عندها يتقادم الموضوع عند اقراره. فالجامعة لا تستجيب بمرونة لحاجات السوق من التعليم.
أعضاء هيئة التدريس غالبا لا يتدرّبون، ولا يتابعون المستجدات، وأساليب تدريسهم تتخلّف كثيرا عن مستوى التدريب حتى بالمراكز التدريبية الخاصة الموجودة بالمملكة.
بعض أعضاء هيئة التدريس ينقصهم الكفاءة والاخلاص والانتماء للعمل؛ فلا تقتصر الكفاءة على اسم الجامعة التي تخرّج منها الاستاذ؛ وكمثال رأيته بأمّ عيني وقبل عشرين عاما (فكيف الآن)، كان اسوأ استاذ يدرس الطلبة ولا يفيدهم بشيء يُذكر هو أستاذ تخرّج من جامعة هارفرد، وآخر خريج مانشستر يضع علامات وفق تقديره دون تصليح الامتحانات، وثالث وكيل وزارة، ورابع مستوزر لا يقدمون الحدّ الأدنى للطلبة.
ما يعرف بسنة التفرغ العلمي (Sabbatical Year) يُستغل لغير تطوير البحث والعلم عموما، فيذهب الاستاذ للعمل بجامعة أخرى أو خارج المملكة؛ وهذا مغاير لأساس اعتماد هذا النهج لجامعات العالم المتقدم الذي يتمّ تقليده لمصلحة الأستاذ. وهنا أودّ الاشارة الى زيارتي لليابان عام 2006 في دورة تدريبية لمدة 43 يوما زرنا خلالها عدة جامعات، والكثير من المصانع لنجد أن لكل قسم هندسة وعلوم متخصصة بالجامعات بالمنطقة ممثل بالمصنع وذلك وفقا لطبيعة العمل والاختصاص، يقوم هذا الممثل على توليف ابحاث الاساتذة والطلبة لتطوير الانتاج، وذلك وفق تعاقد حكومي، وجامعي مع مؤسسة الأعمال (المصنع) لتطبيق توصيات ونتائج البحث بهدف تطوير الانتاج، وزيادة المبيعات، وبالتالي تقاسم المنفعة المالية للأطراف الثلاثة كمثلت تشاركي للتنمية. ثانيا: الخلل الاداري والتدخلات الخارجية، وهذا يشمل:
الجامعات الحكومية تضعف فيها سلطة الادارة لرئيس القسم وللعميد ولنوابه؛ والسبب هو أنه لا يستطيع ايقاع عقوبة على زميله لأن دائرة المسؤولية تدور فيما بينهم، ولذلك يتوقع ردة فعله عندما يتسلّم مسؤوليته. بهذا الواقع، يغيب التقييم والمساءلة لعضو هيئة التدريس.
التعيينات والتدخلات؛ من المعروف أن الكثير من الجهات الحكومية الظاهرة والمستترة تتدخل في تعيينات الجامعة، فأحيانا تُحرم الكفاءات من التعيين، وتعيّن المستويات العلمية التي لا تليق بالجامعة سواء الكوادر التعليمية أو الادارية والمالية والفنية. فعلى الرغم من أن أسس التعيين واضحة ومعلنة وتدعي الجامعات أنها شفافة، الا أن التطبيق عكس ذلك تماما، والتجارب كثيرة ومريرة.
ولديّ مثال صارخ على استاذ وزميل دراسة لي غاية بالتميّز، كان قد تخرّج من جامعة امريكية في أنقره METU، وتقدم للجامعة الأردنية بقسم الفيزياء عام 1996 -على ما أذكر، وبعد محاولات كثيرة ووصوله الى رئيس الجامعة، سمحوا له بتقديم طلبه والنظر فيه، ثم طلب القسم منه تقديم عرض أمامهم حول موضوع معيّن، فقدم هذا الدكتور عرضه للقسم، وسألوه أسئلة قال لي انها بمستوى طالب سنة ثانية، المهم لم يردّ القسم على تعيينه الا بعد عدة أشهر، مشيرا الى أنه جيد ولكن حين يتوفر مجال لتخصصه الدقيق، ولم يتعيّن في الوقت الذي عيّن بذات السنة غيره دون عرض ولا مقابلة...هذا الدكتور تعيّن بجامعة مؤته بعدها، وحصل على جائزة عالمية بالفيزياء، وقبل عام تعيّن عميدا لكليّة العلوم باحدى الجامعات الحكومية -غير مؤتــه، والقصص كثيرة عند الغير.
ندرة تطبيق الأنظمة والتعليمات وميثاق التعليم والأخلاق، وخاصة فيما يتعّلق بأسلوب التعامل مع الطلبة، ووضع العلامات، وتوجيه الطلاب للبحث وللدراسة الأمثل، وكذلك السلوك فيما بينهم، وضعف التعامل مع قدرات وموجودات الجامعة الواجب استثمارها بشكل متميّز.
ثالثا: الخلل بالادارة المالية والاقتصادية للجامعة والابتعاث، وهذا يظهر من أن:
الجامعات الحكومية لا تستغل استثمار موقعها الجغرافي المميّز؛ فالجامعة الأردنية تقع بعمان الغربية، وبمنطقة غاية في الحيوية تحيطها شوارع تجارية رئيسية.
تنفق الجامعات الحكومية مبالغ طائلة على الابتعاث رغم توفر خريجين حتى من الجامعات الغربية، وتطرح الكثير من الحجج الواهية، ولا توجد لديها آلية علميّة لتقييم المتقدم بطلب للتدريس، فقط أسماء الجامعات والدول التي تخرج منها هي المعيار؛ وهذا غير كافٍ ولا دقيق.
لم تخطط الجامعات الحكومية للاعتماد على مواردها الذاتية منذ تاسيسها؛ وهذا فشل اداري، ومالي يُعاب عليها جميعها، فالرسوم التي جبتها الحكومة من المواطن للجامعات لم تكن كفيلة بفطمها عن الاعتماد الرعائي لها، وهذا تكريس للاقتصاد الريعي ولكن للأسف في أرقى مستويات مؤسسات الدولة ما زالت تكرّس الريعيّة.
الانشطة الاكاديمية والاستشارية التي تقدمها الجامعات متواضعة، فالعمل بطريقة الاستاذ المحاضر لا يمكّنها من المنافسة بالسوق المحلي، ولا بالسوق الخارجي.
تعتبر سنة التفرغ العلمي (Sabbatical Year) والتي تمنح عضو هيئة التدريس راتب سنة كل خمس سنوات عمل كلفة وعبئا ماليا، وتحسب تلك النفقات -وعلى الرغم من أنها رواتب وعلاوات- على أنها إنفاق على البحث العلمي، وهذا واقعيا غير منطقي وغير صحيح، فالاستاذ لا يؤلف ولا يبحث بل يقضي العام في عمل تدريسي بجامعة أخرى. رابعا: خلل التعاون والافادة من الخبرات والقدرات من خارج الجامعة، وهذا يشمل:
ضعف التعاون مع القطاع الخاص والعام والمؤسسة العسكرية على السواء، فالجامعات إن لم تتعاون وبشكل حثيث مع مؤسسات الدولة لن يُستفاد من علمها، وتبقى تعاني الضعف المالي، كما تعاني مواكبة التطبيق للعلوم بالزراعة والصناعة والخدمات، وبالتالي بالانتاج الوطني للمملكة؛ أي الناتج المحلي الاجمالي GDP.
تنافس مراكز الاستشارات بالجامعات الحكومية على الأعمال الاستشارية يشوبه الضعف، والاستغلال أحيانا، وتحتاج الجامعات الى مزيد من تشاركية العمل مع مؤسسات الأعمال الزراعية والصناعية والخدمية الانتاجية. وأخيرا، ما هو الحلّ للجامعات الحكومية الأخرى، هل ستطلق مبادرة مماثلة، أم ماذا؟ والحقيقة المرّة التي تعاني منها جامعتنا كما المؤسسات الحكومية والعامة الأخرى بالمملكة هي ما يُعرف بأثر "نظرية الوكالة Agency Theory" وهي نظرية ماليّـة تلخص بشكل بسيط بالتالي : أن من يقوم على ادارة المؤسسة، إن لم يكن له مصلحة شخصيّة مباشرة بالقرار الذي سيتخذه، فلا يأبه بما سيخلّفه القرار؛ أي إن ربحت المؤسسة فماذا له؟، وبالمؤسسات العامة إن خسرت المؤسسة فلا يخسر شيئا، وبالتالي يمكن أن يتخذ قرارا في غير مصلحة المؤسسة سواء لارضاء الغير، أو لمصلحته ومصلحة من حوله، |أو استجابة للضغط من طرف معين..وهكذا.
وعليه، أعتقد أنه للخروج من واقع جامعاتنا الحكومية المؤلم العمل على الآتي:
1. اعتماد مؤشرات لقياس كفاءة عمل كل قسم / كليّة بالجامعة، وكذلك كافة الوحدات الادارية والمالية والوحدات الأخرى، وقياس فعالية أعمال الكليات بشكل موضوعي يتوافق عليه خبراء ومختصون من الجامعات ومن خارجها.
2. حساب تلك المؤشرات، ونشرها بكل شفافية، والاستماع لآراء المختصين والمهتمين بجولات نقاشية متعددة للوقوف على الحقائق، وبيان مواطن الخلل، والاعتراف بمكامن الفشل.
3. طرح البدائل للحلول، وأسس التقويم المناسبة، واقرار الحلول المُثلى لاعتمادها كمسطرة يجب تطبيقها وفقا لمرحل زمنية معينة تُمنح لكل جامعة وبحدّ أقصى خمس سنوات، على أن تؤخذ تلك الحلول بقرارات جريئة ومستقلّة من مجالس أمناء الجامعات.
4. أن تتخلى أجهزة الدولة الظاهرة والمستترة عن التدخل بالتعيينات، وبقبول الطلبة، والغاء كافة المكرمات للقبول حتى لأبناء العاملين بالجامعات. فيجب أن يسود التنافس الحرّ وعلى مستوى المملكة، فالمكرمات شوّهت مستوى الخريجين، وحطّت من مستوى التعليم وقيمته.
5. تنظيم القبول الموازي للطلبة كرافد مالي للجامعات الحكومية، شريطة أن لا يذهب الايراد للرواتب أو المكافآت بل يخصص لتعيين الكوادر العلمية الجديدة وعند الحاجة للتخفيف من البطالة.
6. اعادة النظر بسنة التفرّغ العلمي واقتصارها على الأعمال البحثية الموجهة للانتاج والتنمية فقط والتي تكون بالتعاون مع مؤسسات الأعمال من شركات زراعية وصناعية وخدمية هادفة الى تطوير المنتج R&D الدراسات والتطوير، ويمكن الافادة من تجربة اليابان بهذا الخصوص.
7. أن تستثمر الجامعات في اساتذتها، وموظفيها، وطلبتها المتميزين من الباحثين في انشاء وتطوير المشروعات التنموية المختلفة، ودعم الأفكار التطويرية التنموية.
8. أن تركز الجامعات الحكومية على استثمار مواقعها الحيوية استثمارا اقتصاديا مدروسا كموقع الجامعة الأردنية، وجامعة اليرموك، وجامعة مؤته والتي تتميّز بتربعها على أراضٍ داخل مراكز المحافظات.
9. تفعيل مراكز الاستشارات والتدريب بالجامعات، وتنظيم عملها والرقابة عليها بما يحفّز القائمين عليها وتوجيه طاقاتهم لتعظيم الفائدة للجامعة.
10. ايقاف الابتعاث للجامعات الحكومية ايقافا تاما، والاعتماد على المتوفر بالسوق باختيارهم وفقا لامتحانات علمّية وسلوكية ، ووفقا للتجربة العملية بالتقييم المتتابع لهم ولغيرهم من القائمين على التعليم جميعهم.
11. اقرار التقييم الفصلي للأستاذة ، بهدف التركيز على جودة التعليم، ونوعيّة الخريج، ومعاقبة التقصير، وأي سلوك ينافي العُرف التعليمي المثالي سواء بالجانب العلمي، أو الأخلاقي السلوكي للأستاذ أو الطالب.
12. اعادة النظر بالعبء التدريسي للأساتذة، فليس من المعقول أن يكون نصيب الأستاذ ست ساعات أسبوعيا، وللمشارك تسع ساعات...هذا غير منطقي، وهدر لأموال الجامعات كما تهدر كفاءة عملها.
13. تفعيل سلطة الادارة لرئيس القسم وللعميد ولنوابه وفقا لنظام العمل بالجامعة، واستنادا الى التقييم الموضوعي للكيان التدريسي المتواصل، فالثواب والعقاب أساس العمل الاداري الناجح، وأساس العدل بالحياة برمتها.
14. وأخيرا، نقل تجربة الجامعة الهاشمية، فعلى الرغم من موقعها الصعب استطاعت ادرتها انجاز ما لم تنجزة غيرها ممن هم بحال أفضل بكثير من موقعها وحالها؛ وذلك بتشكيل لجنة أو أكثر لقياس أداء، وتطوير لكل الجامعات الحكومية باشراف الشخص أو الأشخاص ذوو التجربة الناجحة، واشراك من يتطوّع للعمل معهم من الخبرات الأردنية المميزة والمتراكم التي نفتخر بها في وطننا.
وأخيرا، اسأل الله التوفيق لكل جامعتنا، والسداد لأصحاب القرار بها وبمؤسسات الوطن الغالي.
مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/24 الساعة 09:01