السرحان تكتب.. خلف في رحلة مدرسية

مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/16 الساعة 15:44
جميلةالسرحان ينتهي أسبوع المدرسة فيتجهز الأولاد للذهاب إلى بيت أبيهم إذ يقطن في بيت الشعر بالقرب من أراضي الفلاحين ، حيث العشب الوفير لأغنامه ، فيأخذون ينتظرون على طريق الأسفلت مرور سيارة الجبان ليركبوا معه .
سيارة الجبان غمارة واحدة ، فيُركبون أختيهم بالامام ، ثم يصعدون عند (سطول) الحليب في الخلف ، إذْ الوقت عصرًا فأخذو وتراصوا بجانب بعضهم البعض ، ولفهم أخوهم الأكبر (خلف) في فروةٍ يلبسها ، فهواء الربيع مع سير السيارة بسرعة جعلهم يرتعدون من البرد.
أمّا أختيهم فجلستا بحياءٍ وصمتٍ كبيرين ، وما أن وصلت السيارة البيت ،إذْ انطلقوا إلى أمّهم التي لم تكمل حليب الاغنام بعد ، فتُقبّلهم فيُسرع كلّ واحد منهم بأخذ دلو لمساعدة أمّهم في الحليب ، حتى ينتهوا بسرعة فالجبان ينتظر ليأخذ الحليب ، ثم يقوم أخوهم الأكبر خلف بفكّ (شباك) الأغنام لتحريرها فتذهب للمرعى مع البقية ، أمّا أبو خلف فقد اسعده مجيء أبناءه إذْ اخذ يُجلس راكان ومجحم في حضنه ويلفهم بفروته خوفاً عليهم من البرد وفرحاً بهم.
ثم ينطلقون جميعاً لفصل الخراف التي ترضع عن أمهاتهم ووضعهم في (صِيرَة) خاصه بهم ، ليتم حَلب الأغنام صباحاً.
عملية فصلهم ليست بالسهوله فبعض الاغنام شديدة التعلق بخِرافها حيثُ تدافع عنها فتأخذ وتنطح الأولاد برأسها إلا أنّ ابا خلف ينهرها بعصاه ، فيُسرع خلف وراكان وأُختيهما لجمع الخراف وسط ثغائهن وثغاء أمهاتهم ووضعهن في (الصِيرَه )واغلاقها.
وينهر خلف بعصا ما اقترب من أمهات الخراف من الصيره، وإبعادها إلى المرعى ، فتهدأ وتنشغل بالرعي فأبو خلف يهيجن لهن ، وينتقي لهن المرعى الجيد فذاك ( البختري والنفل والمقرة والمرار) قد تلألئ المرعى بها ، إذ يقول الشاعر نمر بن عدوان فيه :
جعـل البختـري والنفـل والخزامـى..
ينبت علـى قبـر هـو فيـه مدفـون..
ومن هناك يساعد أبا خلف أبناؤه بالوقوف بجانب ما زرعه الفلاحين من القمح لئلا تفسده أغنامهم .

وما أن يدمس الدماس (اشتدت ظلمة الليل) ، فيبيّتون أغنامهم بالقرب من بيت الشعر ، وهنا فرحة أبوخلف وأم خلف بأولادهم كبيرة ، إذْ أشعل أبو خلف النار وأم خلف قد أعدت لأولادها الشمندور التي يحبون ، فتطول سهرتهم وهم يحدثون والديهم عن المدرسة وكيف يدبّرون أمورهم لوحدهم ، فيفتخر بهم ويعززهم بتلك العبارة التشجيعية لهم :(عفيه ولدي الأسد) (خلَك رجّال) ، إذ يبلغ خلف الحادية عشرة من العمر .
ثمّ يتسارعون إلى فراشهم ، "فالصباح معه أرزاقه" هذا ما قاله أبو خلف لأولاده ، إلا أن مجحم ذو الصف الأول قد نام وهو في حضن أمّه ، فحملته إلى فراشه بجانب إخوته فالجميع صفاً واحداً في ( الوهده) وهي الجزء الأوسط من بيت الشعر المخصص للنوم .
إلا أنّ خلف لم ينم إذْ بقى يفكر ويفكر وهو في فراشه ، كيف سيُخبر أباه وأمه بأنه يرغب بمرافقة زملائه في رحلة المدرسة إلى البحر الميت الأسبوع المُقبل ، ومن كثرة التفكير غطّ في نوم عميق .
وبعد ليلة هنيئة وهم بالقرب من والديهم استيقظوا على صوت دقة مهباش أبيهم فجرًا ، ورائحة خبز أمهم من هناك ، إلا أنّ دخان النار قد ملأ البيت ، فتسارعوا إلى جانب موقد أبيهم فهناك دخان النار قليل ، فجلسوا وهم يمسحون عيونهم من الدموع ، فيقول لهم أبوهم (إيه الرجال ما يبكيهم دُخان النار) فيتشجعون ثم يتناول كلّ منهم قطعة خبز وكأس من الحليب الطازج ، ثم يقول لهم أبوهم : ( يلا عيالي ، يلا النشامى هاتو الشباك والمحالب وأمّكم تلحق بعدين).
فيُسرع خلف وإخوته ويقوموا بعزل( الرغث) عن (الجلد) والرَغَث بفتح الراء والغين جمع رغوث وهي الغنم التي لها أولاد وترضع ، والجَلَد بفتح الجيم واللام جمع اجلده بكسر الالف وتسكين الباقي وهي الغنم التي ليس لها أولاد ولا تُحلب ومعها الغنم التي لم يحن وقت ولادتها بعد . ثمّ يُمسك خلف (الشباك) : وهو حبل مصنوع من غزل الصوف والشعر و(اشباك الغنم) هي عملية يتم من خلالها ربط الأغنام من خلال استعمال ذاك الحبل الطويل ، حيث تصف الأغنام بشكل متقابل ، بحيث يحيط أو يلتف الحبل حول عنقي كل نعجتين متقابلتين مع بعض ، وتستمر هذه العملية بحيث تربط الأغنام بشكل أزواج متجاورة ، حتى يتم ربطها كلها المعدّة للحلابة مع بعضها بذات الحبل ، على شكل مجموعات تسمى كل مجموعة منها (قَصْرَة) وذلك ليتم فكّها عند الانتهاء من حَلْبها فلا تنتظر طويلًا حتى لايؤثر عليها الحبل وتختنق ، وهذه العملية تجعل من فكّ الأغنام عملية سهلة وسريعة . فتأتي أخواته وإخوته لحلبها ، ومن هناك قد انهت أمّهم الخبز فجاءت لمعاونتهم ، إذْ ارتفعت الشمس قليلاً وما زالو في( المِحْلَب) وخلف ينظر هناك وهناك فإذا بسيارات الفلاحين قد اقتربت منهم ، حيثُ أوقفوا سيارتهم ونزلوا فإذا بهم عائلاتٌ عائلات ، فأخذت كلّ عائلة مكان وجلست فيه ، فالمكان جميل ومليء بشقائق النعمان والاقحوان والسوسنة السوداء وفيه كثير من (البابونج والخرفيش والعكوب والحويرنه والرشاد والخبيزة والحميض ) فبعض الأمهات أخذن يلقطن الخبيزة وبعضهن البابونج ، أمّا بناتهم الصغار فأخذن يجمعن الدحنون وبعض الورود ، وأولادهم معهم كرة قدمٍ يلعبون بها ، وهذه الكرة (أجفلت) الغنم .
فأسرع خلف يطلب منهم أن يبعدوا الكرة عن الأغنام لئلا تجفل من مرعاها ، فقالوا له : تكرم فوضعوها وجلسوا ينظرون إلى الخِراف بمحبة وشغفٍ كبيرين .

وهنا عاد خلف إلى أمّه وهي مشغولة بالحليب ، فأخذ يقول لها : أمي أود الذهاب في رحلة المدرسة الأسبوع المقبل ، فتضحك أمّه وتقول : (يا ولدي ما أنت كل أسبوع تجينا رحلة ، هذا أنت شوف الفلاحين كلهم جو هان عندك يشمّوا الهوا) ، فيرُد خلف : لا يا أمي ، تلك رحلة مدرسية ، وأخذ يرجوها ويرجوها إلى أن وافقت على أن لا يقترب من الأشياء الخطرة ولا يتأخر عن إخوته .
فطار خلف فرحاً وأخذ يرمي شباك الغنم عالياً وكأنه كرة طائرة ثم يلتقطه مرة أخرى .
وما أن أنهوا الحليب ، فيذهب أبو خلف ويطلق (البَهم) وهي تلك الخِراف الصغيرة التي ما زالت في (الصيرة) على أمهاتها من الأغنام ، وهنا يدقق خلف في ذلك المنظر فمن هناك يسرعن الخراف وهن يتثاغين فتسمعهم أمهاتهم فينطلقن هن الأُخريات مسرعات أيضًا ، وكلّ منها تُقبلُ تشتم رائحة رضيعها ثم تقف ليرضع وما أن ينتهي ترافقه إلى المرعى ، سبحان الخالق الذي جعلها أُمّاً رؤوماً.
أمّا تلك الأمهات من الاغنام (النفُّر) اللواتي لا يرمن أبنائهن ، فيقوم أبو خلف بربطهن في (ربج) خاص بذلك ويضع ابنها عندها ، ويبقى يتابعها في إرضاع صغيرها حتى ترومه وتعتني به ، ثم يطلقها مع بقية الاغنام. تنتهي العطلة ويعود خلف وإخوته مع الجبان إلى منزلهم في القرية ، ليلتحقوا بالمدرسه صباح الاحد ، وهنا يسهرون ليلهم يُحضّرون دروسهم ويحلّون واجباتهم ، الا ان خلف يعيش مع أحلام رحلته المدرسية ، إذْ أعطاه أبوه خمسة دنانير ، فسيدفع دينار للرحلة المدرسية والباقي مصروف له في الرحله.
وصباح يوم الأحد يدفع خلف للرحلة المدرسة ، وعند عودته للمنزل يجهز للرحلة أغراضه ولباسه وتلك الليلة لم ينم وهو يفكر في الرحلة ، وفي الصباح الباكر ينطلق مع أصحابه ، إذْ تجمعوا في ساحة كبيرة جداً أمام المدرسة ، كانت الباصات كبيرة جداً وكثيرة فالمدرسة كلّها ذاهبة إلى الرحلة مع جميع المعلمين ، وهناك تجمع الأهالي يودّعون أولادهم ، جميعهم جاءوا مشياً على الأقدام ، لم يمتلكوا سيارات ، وأكثرهم قد حمل جاكيتاً أو كبوتاً لإبنه ، ركب الجميع وأنطلقت الباصات .
خلف وجميع الطلاب على الشبابيك ينظرون إلى الشوارع والسيارات والمحلات التجارية ويلوحون الى كل من يصادفونه في طريقهم.
وحين وصلوا إلى جرش توقفت الباصات ، فإذا بالمعلمين بالسماعات النقاله ينادون على الطلاب بأن يتجمعوا مع بعضهم للإفطار ، فاسرعوا وانزلوا حقائبهم.
فإذا بعضهم قد أحضر بطاطا مسلوقة ، والزيتون وآخر البندورة والخيار ، وآخر بيضاً مسلوقاً وخبز الصاج ، فتناول كلّ منهم قضمة من الخبز وخيارة ، ثم انطلقوا يتراكضون هنا وهناك فبعضهم ركب الأرجوحة وبعضهم ركب الخيل.
واذا بسماعات المعلمين تنادي بالتجمع فيقول خلف : سرنا إلى آثار جرش فإذا بالأجانب جماعات جماعات فأخذنا نلتقط الصور معهم ، ونتحدث معهم ببعض الكلمات فرحين بأنفسنا نتحدث بضع كلمات انجليزيه، ثم وصلنا المدرج وهناك كانا عازفين على المسرح يعزفان أحدهما على الطبلة والآخر على مزمار القربه فعزفا لنا معزوفه (سيدنا.. يا سيدنا.. الله يُنصر سيدنا.. كل الشعب العربي يقول: الله ينصر سيدنا..) فشبك الطلبة والمعلمين سوياً دبكة كبيرة ونحن نغني فرحين الله ينصر سيدنا.
وعند عودتنا مررنا ببازا جرش فاشترينا طاقية راعي البقر وبعض الهدايا ، ثم انطلقت بنا الباصات إلى البحر الميت. ونحن على الشبابيك وما ان رأينا من بعيد لمعان البحر الازرق يتلألأ، فإنطلقت الصيحات إنه البحر، ، لم أكن أعرف إلى أين أُرسل بصري ، فكل الأشياء تفيض بالدهشة ، إنه البحر وما أن توقفت الباصات فإذا بالجميع قد وقفوا بملابسهم في الماء ، فأخذنا نتراشق بالماء ، والمعلمين يقولون لنا : ارفعوا بناطيلكم فوق الساق هذا ماء مالح . ونحن لا نستمع فنقفز مرة ونرشق بعضنا في الماء أخرى إلى أن انهكنا التعب.
ثم انطلقنا إلى الألعاب فركبنا الدولاب و هنالك في الأعلى أحسسنا ان الماء قد جفّ على بناطيلنا فأصبحت قاسيه، لم نعلم ما هذا فعدنا مرة أخرى للماء لنلعب ونجمع بعض حصى الشاطئ الأملس اللامع ، ونشتري الأيس كريم ونلتقط الصور هنا وهناك إلى أن اقترب موعد العودة ، فركبنا الباصات وكنا قد رمينا بعض ملابسنا ومعاطفنا على كراسي الباص، فجلسنا منهكين متعبين وملابسنا من الملح أخذت تشتد على أجسادنا الصغيرة ، إلا أن بعضنا قد نام والبعض ما زال يغني الله ينصر سيدنا ، حتى وصلنا القرية وهناك قد تجمع الاهل جميعاً عند المدرسة وكل أخذ أولاده وأقاربه وحتى أولاد الجيران وهم فرحين بعودتهم ويحمدون اللّه على سلامتهم.
كان خلف يسمع بأن الرحلة المدرسية جميلة لكنّه لم يعلم بأنها ليست جميلة فقط بل رائعة ، صحيح أنه قد ذهب مع أبيه في ترحاله إلى الكثير من المناطق البرية وغيرها المجاورة للفلاحين ، إلا أن رفقة أصحاب الدراسة لها مذاق خاص ، لم ينساه طوال حياته.
فعند وصوله احتفل إخوته به فقد جلَب لكل منهم بعض الهدايا البسيطة ، ثمّ ما لبث أنْ غطّ في نوم عميق وهو يحلم بأنه يروى لأمه عن البحر والألعاب والسياح الأجانب وكل ما شاهد في رحلته التي وصفها بالرائعة.
  • بيرين
  • لب
  • مال
  • عمان
  • شباب
  • جرش
  • عرب
  • معان
  • عبين
مدار الساعة ـ نشر في 2019/03/16 الساعة 15:44