طبيب جراح..!

مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/26 الساعة 00:43
الحال الذي انتهى اليه الجراحون المسؤولون عن معاينة اخطر ازمة مالية تتعرض لها بلادنا اشبه ما يكون بحال الطبيب الجراح الذي باغتته ازمة مرضية حادة لأحد مراجعيه، وحين نهض لاجراء ما يلزم من فحوصات له اكتشف بانه يعاني من جلطة قلبية حادة ومن اعراض مختلفة لأمراض عديدة، كارتفاع ضغط الدم والسكري والفشل الكلوي وغيرها..
احتار الطبيب في مصارحة مريضه، وفي تحديد ما يلزمه من (جراحات) ومعالجات، لكنه -قبل ذلك - سأله عن سيرته المرضية، فأخبره المريض بانه مواظب على مراجعة «العيادات» الطبية المختلفة، وبانه «ابتلع» عشرات الانواع من الادوية، وبأن كل طبيب يزوره كان يعطيه وصفة معينة ودواء معينا.. ويطمئنه على استقرار حالته.. ولكن بلا جدوى.
كان الطبيب يدرك تماما ان احوال مريضه في غاية الخطورة، وانه بحاجة الى اكثر من عملية جراحية، وان من واجبه ان يضعه -واهله - في الصورة، وان يشخص لهم حقيقة الامراض والاعراض التي يشكو منها، لكنه خشي من ان يؤثر على «معنويات» المريض وعلى نفسيته، فآثر ان يبدأ «بالاولويات» العلاجية علّ وعسى تتحسن الاحوال، ويخرج الرجل من دائرة الخطر، وفعل ذلك ليكتشف بان «خياراته» محدودة وحساباته ليست في محلها، فأخذ يكاشف اهله ويهيئهم لاستقبال الخبر الكامل والقرارات الصعبة وبعد فترة بدأ بإجراء العمليات واحدة تلو الاخرى، وفي كل مرة كان يحتاج الى مزيد من الدماء خاصة وان «بنك الدم» الحكومي في المستشفى قد استنفد والمتبرعون انسحبوا جميعا.. وبقي على الاهل ان يوفروا -بطريقتهم - عشرات الوحدات من «الدم».
لم تنته القصة -بالطبع - ولم يغادر المريض المستشفى او يتماثل للشفاء الكافي لكنه ما زال حيا، ومشكلة «المريض» انه لا يعرف تماما اذا كان الطبيب ماهرا بما يكفي لكي يأخذ بيده الى الشفاء بمدة اقل وتكاليف اقل ايضا، كما ان مشكلة من حوله تتعلق بتوفير ما يلزم من «دماء» لضخها في شرايينه، خاصة بعد ان اصبحت هذه المهمة من نصيبهم وحدهم، واصبح متوقفا عليها حياة المريض.. او تراجع حالته لا قدر الله.
لا يخفي الطبيب -بالطبع - هواجسه مما يترتب على «مداخلاته» العلاجية من آثار وتداعيات كما لا يخفي «مراراته» من الوصفات القديمة التي عاينت حالة المريض وساهمت في تراكم اوجاعه وانتشار المرض فيه، وكم يتمنى لو استطاع ان «يحاسب» اولئك الذين سبقوه وزرعوا «وهم» العافية داخل الرجل ولم يحسنوا تشخيص حالته واعطائه ما يلزم من معالجات، لو استطاع لكان بمقدوره ان يصنع مئات المتبرعين لتزويده بما يلزمه من دماء.
بين الجرّاحين الاثنين، جراح الحكومة وجراح المريض، وبين دماء اقتصادنا التي سالت على ايدي قليلي الخبرة والاخرى التي هدرها «جراد» الفساد والعبث بالمال العام، خيط رفيع، لكنه شديد وقوي.. اما جراحات الناس التي ما تزال مفتوحة بانتظار المقررات الصعبة فهي بحاجة الى مباضع امينة ودقيقة.. وضمادات معقمة تساعدها على الرتق والالتئام. الدستور
مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/26 الساعة 00:43