إذا انجن رَبْعك..ما بنفعَك عقلك !

مدار الساعة ـ نشر في 2016/11/29 الساعة 00:40
* ناديا هاشم العالول

تعليقات عدة وردت حول مقالتي السابقة بعنوان العقلاء في جحيم « تندرج معظمها تحت مظلة واحدة وهي ان «الحقيقة» محصّلة كل علم و معرفة، ومطلوبة لتحقيق النمو والتقدم ، كذلك « الخيال» فهو الآخر مطلوب من أجل الخلْق والإبداع والإبتكار ، وأما الوهْم فهو مرفوض مرفوض!

فعلا فالتمسّك بالحق والحقيقة بأنواعها من علمية وعملية مطلب أساسي لا يجوز الحياد عنه مهما كان الثمن مكلفا معنويا وماديا، والا ستتعرض شعوب وأمم للإنقراض في ظل جهل ينجم عن قلب الحقائق وتلوينها وفق مصالح آنية تسير بطوفان معكوس مغلوط، يكتسح حصون العقل المنيعة مدمّرا إياها بمهارة جنونية لا مثيل لها في هذا الزمن الغريب العجيب.. ومع ذلك لا يمكن تغطية شمس العقل الساطعة بغربال بظل قلب الحقائق وبعثرتها بدهاليز النسيان.. هذه من جهة..

ولكن من جهة أخرى جاءت تعليقات أخرى مضادة تصر على أن الجنون بعينه أن تظل عاقلا بدُنْيا المجانين المتألقين والمتكاثرين والمفتقرين لأدنى درجات العقل والمنطق ، حتما «سيطقًّ» عقل العقلاء لكثرة ما ما شدَوه يُمنة ويُسرة طمعا بتكبيره لمواجهة مطحنة اللامعقول في زمن الجنون المتكالبة أمواجه لإبتلاع كل عاقل رزين.. فكما يقول المثل :إذا انجَن رَبْعَك ما بنفعك عقلك !

يعني الأفضل للعقلاء – من وجهة نظر المثل والمعلِّق- ان ينضموا لصفوف المجانين فهو أسلم لهم بظلّ توجّه سائد يشير الى انهم عندما وُزِّعت الأرزاق والعقول ، لم يرض أحد ب «رزقته»، ولكن الجميع رضي بعقله..

هذه وجهة نظر بعض القراء..

ايضا..لفت نظري تعليق تمحور حول «العاقل المجنون»، اي العاقل الذي يتمتع بكل المواصفات العقلية العادية أو الرفيعة المستوى ولكنه يُصاب بجنون العظَمَة لكثرة تضخم الذات ، فظاهرة العقلاء المجانين وبخاصة من القادة الذن يقتلون ويبطشون في سبيل البقاء على كراسيهم لهي كثيرة ، وهي ظاهرة متفشية ايضا بين الناس العاديين ممن ينصّب الواحد منهم نفْسَه قاضيا وحكَما وجلادا فيبطش بابنته او أخته لمجرد شك عابر مُزهقا روحا بريئة..

تعليق آخر يتّهم المبدعين والمخترعين بالجنون لكون بعضهم يشتكي من غرابة الأطوار قد تصل للجنون احيانا فنرد عليه قائلين: على الأقل فجنونهم يدرّ على البشرية منفعة كبيرة فشتان ما بين جنونهم المدبِّر وجنون الآخرين المدمر..

مضيفين بدورنا بأنه لا يخلو اي إنسان من الجنون ولكن بنسبة وتناسب ، فالكل يحتاج الى جرعة «بسيطة «من عنصر الجنون للمبادرة والمخاطرة والابداع.. وهذا أحد أسباب إطلاق وصف الجنون كصفة ملازمة في غالب الأحيان للإبداع..

فالجنون هو مفهوم فضفاض يتضمن حالات مرَضية متعددة، تتميز بحالات من حرية التفكير وانطلاق العقل وجموحه وإذكاء الخيال وفيضانه وحضوره، وهو حالة يتوق إليها كثير من الأدباء والفنانين والمخترعين.. محذرين بدورنا إِنْ زاد الشيء عن حدِّه نقص..وهنا مكمن الخطر..

لفت نظري تعليق من شابة مثقفة تشكو من انتشار الثرثرة الكلامية والتي تسللت بدورها الى وسائل التواصل الاجتماعي ، مؤكدة على انها الجنون بعينه.. فعلى حد رأيها ان نسبة كبيرة تعتقد بأنها حكيمة زمانها ولا بديل لآرائها.. مستشهدة بقول لعلي بن ابي طالب: اذا تمّ العقل نقص الكلام!

ونحن نتفق على ذلك فحتما هنالك علاقة عكسية بين تمام العقل ونقصان الكلام.. فالحكيم عادة يزن كلامه قبل أن يخرج قلّ الكلام ام كثُر ، فيخرج موزونا راجحا.. وطبعا «توزين» الكلام يحتاج لمهلة من الوقت، والتمهل يقلل من حجم الكلام ، مقارنة مع نظيره المندفع الذي يخرج كلامه متدفقا بغزارة لغياب رقابته الذاتية المنبثقة عن عقل راجح مفكر..

أُدرِج تعليقا آخر لفت نظري محذرة من أبْعاده بحالة انتشار مضامينه :

يقول فيه صاحبه: العقل مرفوض ببلاد العالم الثالث , ولهذا «يأخذ البعض الحبل من قصيره» – لهجة المصريين- مختصرا بذلك كل دواعي الألم ، منسحبا ، مقلصا طموحاته الى الصفر لينجو بنفسه من جنون محتم.. تاركين للدنيا مبادرة تسيير «دفّة» مصائرهم.. ونحن نعترض على ذلك فهذه هي «اللامبالاة» بأقصى معانيها وهي مرفوضة بمعاييرها العلمية، فالحياة أخذ وعطاء وللبشر دور في حرية الإختيار بغض النظر عن بعض المعطيات التي تشير الى ان العقل الراجح الرزين يجلب التعاسة لصاحبه بعكس العقل الخفيف الذي لا يحمل هم دنيا ولا عذاب آخرة، فإننا نؤكد ان أعظم عطايا الله سبحانه للبني آدم هو العقل الذي يدبّر الإنسان ويقوده إلى اعالي الأمور ، فالعقل المدبِّر يدبِّر صاحبَه ليهديه نحو الأفضل من علم وعمل وإبداع وابتكار واختراع واكتشاف.. الخ ، كل هذه الانجازات برمتها تترك بصمات ايجابية على الإنسانية جمعاء.. وأخيرا: تفاءلوا بالعقل وتمسكوا به فهو الآلة الحقيقية الموجِّهة والمحقَّقَة لأي إنجاز.. * الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2016/11/29 الساعة 00:40