الطورة يكتب: هل المنصب العام غنم أم غرم ؟!

مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/20 الساعة 19:24
بقلم: عبدالرحمن خالد الطوره
في بلادنا ظاهرة ملفتة للنظر, ألا وهي ظاهرة امتلاء الصحف اليومية أو مواقع التواصل الأجتماعي بعبارات التهاني والتبريكات اثر صدور التشكيلات أو التعديلات الوزارية أو في وظائف الدولة العليا . وأكثر ما يلفت النظر في هذه الظاهرة هو إضفاء صفات وسجايا مبالغ فيها على من كان مشمولا بهذه التعيينات, وما يرافق ذلك من تفاخر عشائري أو عائلي يرى في تعيين احد الأشخاص تكريما للعشيرة أو العائلة أو المنطقة ومجدا لها ما بعده من مجد. وبقدر ما يركز المهنئون على الشخص المعين الذي " تعلو وتزهو به المناصب ", وبان" القوس أعطيت لباريها " , فإنهم يركزون ـ أيضا ـ على العشيرة أو العائلة التي أنجبته من خلال إطلاق أوصاف كبيرة عليها , كقول بعضهم بأنها لا تنجب إلا الرجال الرجال ، الذين دانت لهم العلياء وأسلمت إليهم قيادتها وما إلى ذلك من أوصاف كبيرة لاتتفق وواقع الحال , بل يصدق عليها قول الشاعر الاندلسي ابن رشيق القيرواني في وصفه حكام عصره الذين تكنّوا بألقاب المعتمد بالله والمعتضد بالله في الوقت الذي كانت تسير فيه الأندلس نحو مصيرها المحتوم حيث قال:

مما يزهدني في ارض أندلس ألقــاب معتمـد فيهــا ومعـتضـد
ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد بطبيعة الحال ـ وحتى لا يساء فهمي ـ فانا لا انقد العشيرة كتكوين اجتماعي موجود لأننا جميعا أبناء عشائر ، لكنني انقد الذهنية التي ترى في تعيين شخص من عشيرة أو من عائلة معينة وكأنه تمييز أو تكريم لها عن سواها , واعتقادها بان المنصب الذي حل فيه ابنها ستنعكس آثاره الايجابية عليها من خلال استثماره واستغلاله لصالح الأقارب والمحاسيب ، مغيبين الفهم السليم للمنصب أو الوظيفة كخدمة عامة لأبناء الوطن, وليست مجالا نأمل من ورائه تحقيق المغانم والمكتسبات سواء أكانت مغانم شخصية أو فئوية أو عشائرية أو جهوية. وفي حين يعتبر المنصب العام في كثير من الدول عبئا ومسؤولية جسيمة يعتذر الكثيرون عن قبوله, فانه عند البعض منا مغنم يركض ويسعى إليه ليل نهار, مسخرا كل ما يملك من وسائل مشروعة وغير مشروعة, لان المزايا والمنافع ـ على ما يبدو ـ المترتبة على الحلول بالمركز تستحق في رأي البعض أن يراق من اجلها ماء الوجه, وأن تحفى من كثرة السعي إليها الأقدام , وأن تجف الألسن من كثرة ما تجامل وتنافق أصحاب القرار.
لو كان الساعي للمنصب يعرف بأنه سيحاسب حسابا عسيرا إذا ما قصر في الأداء, أو إذا ما ارتكب مخالفات إدارية أو مالية يمكن أن يصل في بعض الأحيان إلى حد دخوله السجن لفترة طويلة أو طرده من الوظيفة ـ مثلا ـ لما تهافت على المنصب ولما سعى إليه ، ولما كانت هناك تهان وتبريكات ، بل كان سيقال إليه بدل كلمة (مبارك ), أعانك الله على هذا الحمل الثقيل, ونرجو الله لك التوفيق في هذا الموقع والخروج منه نظيفا شريفا سالما غانما لا للمكاسب , وإنما غانما للسمعة والسيرة الوظيفية الحميدة. لقد كانت هناك قاعدة في تراثنا تقول بأن طالب الولاية لا يولى, لأنه ما طلبها إلا طمعا في مال أو جاه أو في كليهما ، ولذلك كانت الوظيفة العامة أمانة وخدمة ومسؤولية وحملا ثقيلا لا يختار إليها إلا أصحاب الكفاءة والخبرة والأخلاق الحميدة , ولهذا لم يكن يسال الناس آنذاك ، وكما هو شائع حاليا، عن اصل وفصل الموظف , ومن أية منطقة هو. كما لم تكن هناك شكاوى من أن مناطقهم لم تمثل في الوزارة , أو أن حظهم من مناصب الدولة العليا قليل .
إن شيوع مثل هذا النمط من التفكير مؤشر ـ للأسف ـ على أن فهم النا س للوظيفة العامة ومواقع المسؤولية العليا يقوم على اعتبار هذه المواقع مكتسبات يجب توزيعها محاصصة وبالتساوي بين مناطق الوطن وعشائره, لان حرمان أي منطقة أو عشيرة كبيرة من هذه الوظائف يعني حرمانها من الخدمات , والتي لاتقدم إلا من خلال وجود ممثلين لها في كل قطاع . ويبدو أن واقع الحال هو كذلك , وألا لما تكررت مثل هذه المطالب والشكاوى في كلمات السادة النواب في مناسبات الثقة بالحكومة , أو في مناقشاتهم لخطاب الموازنة العامة للدولة , أو في لقاءآت رئيس الوزراء والوزراء بالمواطنين في مواقعهم. ان هذا النمط من التفكير بحاجة إلى معالجة جذرية , لان استمرار شيوع قيم المنفعة الذاتية والعائلية والجهوية ستحولنا ـ إذا ما استمرت ـ من مجتمع موحد متماسك إلى كنتونات او تجمعات أو مجموعات فسيفسائية متناثرة ومتناحرة يسعى كل منها لمصلحته الذاتية فقط حتى لو تعارض ذلك مع مصالح الوطن والمواطنين.
مدار الساعة ـ نشر في 2019/02/20 الساعة 19:24