غرفة عمليات أردنية سورية مشتركة
المحامي بشير المومني
لطالما كانت السياسة الأردنية في ملفات الصراع الأقليمي تسبق زمنها ولعل التجربة الأردنية في هذا المجال ثرية بما يكفي لتدريسها في كليات السياسة والدفاع الاستراتيجي وهي تصلح بالتأكيد لتكون محلا لأطروحات رسائل الماجستير والدكتوراة ولا نبالغ اذا قلنا ان العبقرية لا تتجلى في الخروج منتصرا من الصراع بل في عدم دخوله اساسا لا بل وفي توظيفه أحيانا أخرى فالمدرسة الاردنية باتت محل إعجاب وتحليل كما تطالعنا بذلك التقارير الصادرة عن مراكز الدراسات العالمية والتحليلات في الصحافة السياسية العريقة والإصدارات الأمنية المتخصصة لفورن بوليسي وغيرها..
جهود خارقة وعمل مؤسسي مدروس قادته منظومة أردنية متكاملة على رأسها مؤسسة العرش ومؤسسة القوات المسلحة ومؤسسة الاجهزة الامنية وقد أشترك فيها الرسمي والشعبي كل فيما يخصه ساهمت بشكل فعال في النأي بالاردن عن الدخول في الاشتباك الخشن والابقاء عليه في مستويات الاشتباك الناعم للصراع الاقليمي لتجنيب الأردن ما امكن الانخراط السلبي فكانت المدرسة الأردنية التي تقوم على نظرية الاحتواء والامتصاص التدريجي لصدمات المنطقة وتفكيكها بعيدا عن البروباغندا الاعلامية نموذجا فريدا يستحق الدراسة وبكل تأكيد فلقد كان لذلك ثمن باهظ فاحش على المستوى الاقتصادي وحصار صريح غير معلن بدأ بالتفكك والانهيار مع فتح الخطوط والحدود شرقا وشمالا..
الأردن يقوم اليوم بمهمة إقليمية سامية غاية في الخطورة والحساسية فمن موقعه كنقطة الارتكاز الأمني للمنطقة تحت بند عبقرية الجغرافيا ومساهمته الفعالة في تفكيك أنساق ما دون الدولة من مليشيات وتنظيمات مسلحة والحرب على الإرهاب دوغمائيا وعملياتيا وسياسته وجهده الدبلوماسي في عمليات الاشتباك والحياد الايجابي فهو محطة التفاهمات الأقليمية والبينية لغايات تحقيق معادلات الأمن والسلام وهو بذلك مناهض ومناوىء طبيعي للسياسات الاسرائيلية والايرانية مثلا القائمة على التوتير وتصدير الازمات وافتعال ونقل الصراع الامني والعسكري للمحيط الحيوي الاقليمي تحت نظريات تصدير الثورة او بيت الدبور وغيرها مما انهك الاقليم وجعله في حالة تخلف حضاري غير مسبوق..
المشاريع العابرة للقارات لا تحزم حقائبها وترحل بل لها آثار وأدوات حتى لو تعرضت للهزيمة أما ذيول الهزيمة من أدوات المشاريع فإن وظيفتها تنتهي بانتهاء المشروع لذا ليس غريبا ان نشاهد تراجعا على المستوى الدولي والاقليمي لدور المليشيات الشعبية في اسناد الجهد العسكري والامني الميداني للدول ووقف تمويلها وتفكيكها بشكل ناعم او خشن وفي العلاقة الأردنية السورية فلقد استخدم كل طرف هذه الادوات لإسناد مصالحه فكان مثلا جيش العشائر في جنوب سوريا والذي دعمه الاردن بقوة لغياب دور الدولة السورية على طول الحدود وعدم قدرة النظام السوري على القيام بواجبه السيادي في حفظ حدوده الجنوبية لذا كان من الطبيعي ان يقوم المفكر الاستراتيجي الاردني بصناعة نطاق أمني يقوم بهذه المهمة مما جنب الاردن الدخول العسكري المباشر داخل الحدود كما فعلت تركيا..
بانقضاء مشروع تفكيك الدولة الوطنية السورية وجر ذيول هزيمته خلفه وانسحابه المفضوح من الإقليم وإعلان انتصار سوريا الدولة استراتيجيا فإن مرحلة جديدة تكون قد بدأت مما يقتضي حتما القيام بعملية «حرق المرحلة السابقة وأدواتها» والمقصود هنا ليس أدوات المشروع بقدر ما هي الأدوات في العلاقة البينية لكل من الأردن وسوريا ومن المعلوم الاستراتيجي بالضرورة أن الانتقال من مرحلة الملف العسكري للأمني ومن الأمني للسياسي وصولا لإعادة العلاقات ما قبل الصراع يقتضي حتما تفكيك وحرق ادوات الصراع بحرق كامل لمرحلته واذا اردنا ان نعيد العلاقات الاردنية السورية الى ما كانت عليه قبل العام 2011 فهنالك جملة من الاستحقاقات يتوجب على الطرفين القيام بها بمنتهى حسن النية ليس من باب الاعجاب بالنظام السوري وليس حبا من السوريين بالعيون الاردنية ولكن هكذا هي معادلات المصالح المشتركة..
إنشاء غرفة عمليات أمنية وعسكرية أردنية سورية وربما عراقية مشتركة باتت الآن استحقاقا لا خيارا وصولا للتنسيق السياسي ورفع التمثيل الدبلوماسي في جدول موضوعي وزمني له اهداف محددة على رأسها حرق الأدوات القديمة سياسيا وعسكريا وأمنيا واقتصاديا واعلاميا والتي تقف عائقا بوجه تقدم مسارات العلاقة البينية واعادة توزيعها وتوليفها بما يتناسب والحالة الجديدة للإقليم فلا يمكن القبول مثلا بأي جهد لحزب االله داخل الاردن لوجود قراءات صراع مع اسرائيل او اي تشبيك فكري تنظيمي لنظام الاسد في الشارع الاردني او جهد للجيش السوري الالكتروني في حروب البروباغندا او وجود مليشياوي إيراني على حدودنا بأي شكل من الأشكال باعتبار ذلك من قبيل الاعمال العدائية التي لا تتناسب وطبيعة المرحلة وما يمكن للأردن ان يقدمه في اعادة خرط سوريا الدولة في النظام العربي او مساهمته في وقف الاعمال العدائية الاسرائيلية تجاه دمشق تمهيدا لاطلاق مسار السلام من جديد او اتخاذ الاردن مجمعا لشركات اعادة الاعمار باعتباره الحاضنة التكتيكية الآمنة.. باختصار المطلوب اليوم هو حرق المرحلة الماضية بكل ما فيها من سلبيات وبالنتيجة حرق أدواتها..