أحمد
* عبد الهادي راجي المجالي
أمس سرت خلف طاحنة , تابعة لأمانة عمان ...كان الشارع ضيقا , وصف الحاويات مكتظا , وأنت حين تشاهد طاحنة ..تصمت وتلتزم بالوقوف التام حتى يقوم الشباب بعملهم على أكمل وجه ..
في الخلف , لفت انتباهي (عمال الوطن) ..أحدهم إسمه (أحمد) ..وهو للعلم ليس وافدا بل من بلادنا , سمعت رفيقه الذي يقف على الجهة اليمنى من الطاحنة يناديه أحمد ...أسرني هذا الرجل , فهو يضع هاتفا بجيبه , ويضع سماعات الهاتف في أذنه , ويستمع ربما لأم كلثوم ربما لنانسي عجرم ربما ..لشكيرا ليس مهما , المهم أن يستطيع أن يجمع بين الزبالة والطرب ...
مشيت خلفهم , وثمة عادة مرورية ترسخت في عمان وهي أن كل السيارات حين تقف طاحنة (الزبالة) تلتزم بالوقوف التام خلفها دون إطلاق (الزوامير) حتى ينهي الشباب تفريغ الحاوية ...وبالصدفة وقفت سيارة (رنج روفر) حديثة الصنع وفارهة جدا ..وتقودها فتاة في أول العمر ويبدو من مظهرها , أنها تجمع الجاه والجمال ..وأحمد يجمع الطرب والزباله ..لا عليك يا أحمد .
المهم رمقها بنظرة , من حق عامل الوطن وفي لجة التعب والطرب ..ان يرمق النساء الجميلات بنظرة عابرة , وأنا نظرت إليه وهو نظر إلي وابتسم ...ثم قفز من الطاحنة بخفة ورشاقة كالغزال , وأدار مع صاحبه حاوية ممتلئة ..فرغها في الطاحنة وانطلق ..ولكنه قبل أن يفرغها , تفقدها جيدا من الداخل ..وأخرج أكياسا من الخبز وعلقها على يمين الطاحنة وفوجئت , أن الميمنة والميسرة كلها أكياس خبز .
حين وقفنا بجانب بعضنا سألته عن الخبز , قال لي :- (حرام يا معلم نعمة الله تنكب بالزبالة) ...وأخبرني أنهم أحيانا يضعونه على الحجارة وفي بعض الأحيان يعطونه لمربي الأغنام ..كونه يصلح لإطعام الماشية حين يخلط مع الشعير ..وفي لجة السؤال قال لي أحمد :- (معك ولعه يا أستاز) ...
لتخفيف وطأة الإسم أطلقنا عليهم عمال وطن , والبعض يقول عنهم (زبال) ..ولكنه يخاف الله أكثر منا , فهو ينبش الحاوية , ويخرج أكياس الخبز الناشف منها ليس لأجل الخبز وإنما مخافة من الله ...ومع ذلك وفي غمرة الرائحة الكريهة , وغمرة العمل الشاق والبرد ووقوفه على حافة الية ثقيلة يتعدى وزنها الـ (15) طنا ..يسمع جورج وسوف ( بتعاتبني على كلمة) ..لقد سألته :- شو بتسمع ..فأجابني (أبو وديع يا أستاز بتعاتبني على كلمة ...)...وأيضا يخلق لنفسه وقتا للغزل , فهو حين يرى الجمال يمتع ناظريه قليلا , ومن حقه أن يحلم بنظرة أو رمقة من سيدة , صدقوني أن البنت التي كانت تقود (الرنج روفر) نظرت إليه وابتسمت , هؤلاء هم الوحيدون في الأردن الذين يبتسم لهم الكل ...
في أمانة عمان هنالك أناس ينتجون من الزبالة :- فرحا وطربا وغزلا ونحن لدينا وطن فيه كل المقدرات والثروات وكل الحب والحضارات ..ولم ننتج غير القلق ...
السيد عقل بلتاجي , أريد تحويلي لعامل طاحنة ..على الأقل كل البنات حين يعبرن من جانبي سيقمن برمي ابتسامات اعجاب لي , وكل الأطفال سيلوحون لي بأيديهم ..ومثلهم سأعلق الخبز على أطراف الطاحنة , وربما سأستمع لجورج وسوف :- بتعاتبني على كلمة ...
أنا أجرؤ ...غيري لا يجرؤ
الرأي