الأنظمة السياسية وتدمير الكتب والمكتبات
الكاتبة : د. آمال الجبور
يتحدث كتاب "ابادة الكتب والمكتبات برعاية الانظمة السياسية في القرن العشرين " للكاتبة ربيكا نوث، حول الحملات المتعمدة لتدمير الكتب والمكتبات، وربط هذه الظاهرة بجريمتي الابادة الجماعية والعرقية.
ويعرض الكتاب اعلاه، الصدام بين الايدولوجيات المتطرفة والنزعة الانسانية، ونظرة كل فريق الى وظيفة الكتاب واهميته في توعية الفرد في المجتمعات الانسانية، فكانت الايدولوجيا توظف في كثير من الاحيان لحرمان جماعة من حقوقها لخدمة ايدولوجيا متطرفة.
وتعرف الايدولوجيا هنا حسب ما اوردته مؤلفة الكتاب، بوصفها " بناء من العقائد او الفكر" ويعرفها علماء السياسة والمؤرخون في القرن العشرين، "بانها نسق معتقدات سياسية يسعى الى اعادة بناء المجتمع بصورة شاملة" .
وبالنسبة الى هؤلاء الباحثين تشيرالايدولوجيا، الى برنامج اجتماعي سياسي متطرف، او فلسفة مشيّدة حول فكرة لتحويل المجتمع.
ووفقا لهذا المصطلح، توظف النظم السياسية الايدولوجيات، لتنظيم المعتقدات والاتجاهات في مجموعة من القواعد المشتركة ، تساعد على تنظيم السلوك والتحكم في السياقات الاجتماعية والسياسية، فتحل المبادئ الايدولوجية محل المنظومات القيمية التقليدي، مثل تلك المنظومات القائمة على مبادئ دينية.
وفي مناخ سياسي قائم على الايدولوجيا، فالقراءة والبحث، من وجهة نظر المتطرفين السياسيين، يعتبر نشاطا غرضه تعزيز الغايات الايدولوجية، والمواطنين في ظل نظام سياسي متطرف يجب عليهم الا يلجأوا الى افكار تقع خارج المنظومة الايدولوجية للفكر، لذلك يبقى الخوف مصدر السلطة، اذ يخشى ابواق الايدولوجيات الكتب، ويخشون السماح للمعلومات بالوصول الى الناس ويخشون البحث المعرفي والتعلم التحرر من الاغلال الفكرية.
وبما ان الايدولوجيات تترعرع في ظل الانغلاقات الفكرية، فان الكتب والمكتبات تكمن فيها اهمية التأثير في الادراك الفردي، لذلك على مدى التاريخ اعلن الحكام المتطرفون ضرورة تدمير الكتب والمكتبات.
ولكي تكتسب ايدولوجيا ما ظهيرا سياسيا ، يجب ان تعتنقها بالاساس كتلة حرجة من المواطنين، وغالبا ما تكون الخطوة الاولى هي فرضها قسرا، وتسخَّر الدولة عن طريق هياكلها الرسمية، اساليب الهيمنة التي تعزز مُثل الحكومة.
ومن الامثال التي نستشهد بها من التاريخ الانساني على حرق المكتبات والكتب و تصارع الايدولوجيات، وتاثيرها على المواد الثقافية والسكان في المجتمعات منها:
مكتبات العراق:في عام 2003م، تم تدمير المكتبة الوطنية العراقية التي تأسست عام 1961م في بغداد، وكانت تضم في الثمانينيات 417 ألف مجلد و2618 مجموعة من الصحف والدوريات و4412 كتابًا نادرًا، وقُدرت مقتنياتها عشية الغزو الأميركي بمليوني مطبوعة رقمية، من بينها أكبر مجموعة في العالم من الصحف العربية، وحرق في الوقت نفسه مكتبة الأوقاف الواقعة على بُعد 500 متر من المكتبة الوطنية.
مكتبة كابول:ازدهرت مكتبات أفغانستان خلال السبعينيات، كان كل مترجم كاتبًا والعكس في أثناء الحقبة السوفيتية، هذا كله تغير على يد "طالبان"، ففي 1996م دمر التنظيم مكتبة كابول العامة التي كانت تحتوي على 55 ألف مؤلَّف.
مكتبة البوسنة : في عام 1992م،حرق الصربيون مدينة فيجكنيكا التي كانت تحتوي على مكتبة ضخمة ظلت تحترق لمدة 3 أيام كاملة.
مكتبة سريلانكا :في 31 من مايو 1981، هجمت شرذمة من رجال الشرطة في سريلانكا على مكتبة "جافنا"، وأحرقوا مبناها المؤلف من طابقين، بمجلداتها الـ97 ألف المكتوبة على الورق والألواح، من بينها 150 دراسة عن تاريخ "جافنا" اختفت كلها في اللهب.
مكتبات كمبوديا: سيطرت عصابات "الخمير الحمر" على الحكم في كمبوديا عام 1975م، وخلال 3 سنوات من الحكم الدموي، تم قتل ثلث السكان، ودُمرت 5857 مدرسة و1987 معبدًا بوذيًا و108 مساجد وكنائس و796 مستشفى، وأُعلنت الحرب ضد الورق،وحرق 70 ألف مجلد إلى رماد وفتات.
بالاضافة الى ما حصل في عام 1940 عندما احتلت القوات الروسية دول البلطيق : استونيا ولاتفيا ولتوانيا، وطهّرت مكتبات بيع الكتب والمكتبات العامة ، فحرقت الكتب وحظرت 4 الاف كتاب وكتيب ، في عملية تحوي البيئة الثقافية لتتفق مع المعتقدات الشيوعية .
وبعد عام 1940 حاول النازيون محو جميع الكتب الانجليزية والفرنسية وهولندا وبلجيكا ولكسمبورغ، للتخلص من المواد الشيوعية، واخضعوا المطبوعات والمؤسسات الثقافية للمعتقدات النازية.
وتم حرق مكتبة ليتوانيا الوطنية عام 1919م، وضمت 20 ألف مجلد عام 1941م أتلف الجيش الألماني منها 19.175 مجلد، ثم احتل الاتحاد السوفييتي البلاد، وجرت عمليات تخريب في إطار عملية "تخليص المكتبات من المطبوعات الخطيرة أيدولوجيًا".
وعبًر التاريخ القديم عن حرق العديد من المكتبات، وكل لها قصة ترتبط بالايدولوجيا التي تسيطر في تلك الفترة، فتم حرق مكتبة الإسكندرية في مصر في نهاية القرن الأول قبل الميلاد،ومكتبة القسطنطينية التي أسسها الإمبراطور قسطنطين الكبير عام 330م،و كانت تحتوي على 7 آلاف كتاب، وبعد مئة عام من تأسيسها وصل عدد الكتب إلى 120 ألف كتاب، حيث كانت أكبر مكتبة في العالم آنذاك.
وحرقت مكتبات بغداد في أواسط القرن الثالث عشر، حيث وجد 36 مكتبة في العاصمة العباسية، وحرقت قوات المغول كل مكتبات بغداد، ورمت خلال أسبوع في نهر الفرات عددًا مهولًا من الكتب، وأصبحت مياه النهر سوداء قاتمة بسبب حبر الكتب والمخطوطات.
بالاضافة الى كتب اليهود ، حيث اعتقد أباطرة وباباوات المسيحية أن كتب اليهود تحتوي على تلميحات سلبية تجاه العذراء وابنها المسيح،و حرض ملوك ومطارنة فرنسا وإنجلترا والبرتغال وإسبانيا والبرتغال لجمع كتب اليهود وتسليمها إلى رهبان المسيحية، وفي 1242م، انطلق الفرنسيون قبل غيرهم وحرقوا حمولة 14 عربة من الكتب في الساحة العامة بباريس.
محاكم التفتيش في الغرب ،في 1515م التي نفذت القرار البابوي بإتلاف الكتب المترجمة من اليونانية والعربية والعبرية والكالدية إلى اللغة اللاتينية، وكذلك الكتب التي تحتوي على مغالطات في الإيمان أو تلك التي تدعو لـ"العقائد المفسدة"، كذلك الكتب التي تسيء للشخصيات المرموقة.
بالاضافة الى كتب الصين،ففي 1772م أمر الإمبراطور الصيني كيان لونغ بضرورة البحث عن جميع كتب الصين النادرة من مخطوطات أو مطبوعات، بحجة جمعها في موسوعة شاملة، وبالفعل جرت مصادرة 79.337 لفافة في 6 سنوات، لكن بعد جمع هذا العدد الهائل، أمر "لونغ" بحرق أي كتب لمعارضيه،وفي عام 1778م، شهدت بيجين تنظيم عملية حرق هائلة للعديد من نسخ الكتب المصادرة.
مكتبة الكونجرس الأميركي،في عام 1800م أنشا الكونغرس الأمريكي مكتبته بعد أن حصلت على أول دفعة كتب من لندن تمثلت بـ740 عنوانًا، وفي 24 أغسطس 1814، أضرم جيش الغزو البريطاني النار في الكونجرس والثلاثة آلاف كتاب التي كانت تحتويها المكتبة آنذاك.
المكتبة الفرنسية، التي احرقت وبداخلها 400 ألف كتاب، باندلاع الحرب الفرنسية البروسية في أغسطس 1870م، وأُجبرت مدينة ستراسبورغ الفرنسية على الاستسلام بعد سقوط 193 ألف قنبلة بروسية عليها..
وبذلك لم تسبب الانظمة السياسية ازهاق الارواح البشرية فقط ، بل تناولت حظر الكتب وتطهير المكتبات، واعادة كتابة التاريخ والكتب المدرسية بالطريقة التي تناسب الايدولوجيا التي تتبناها.