الصورة الكلية.. وجوائز لم نعرف مصيرها
مدار الساعة ـ نشر في 2018/11/27 الساعة 08:33
المحامي بشير المومني في طفولتي كنت اتمتع بموهبة فطرية هي الرسم وحيث ان الخيال الطفولي الخصب لم يكن ليستوعبه منهاج ولا طريقة تدريس فلقد كنا نهرب من الغرف الصفية لنتسرب في خيالنا على صفحات كتب المدرسة فمنا من كان يعبر عن رجولته المأمولة والتي غالبا ما يتم مصادرتها مع او صفعة من يد الاستاذ عندما يرى جمجمة القراصنة المرسومة ومنا من كان يتغزل ببنت الجيران ( أمل.. نور.. سميرة ) وهذا تصنيفه (منحرف) فكان يتم إحالته الى غرفة الإدارة (غوانتانامو) فيخضع لاجراءات أشبه بالتحقيق الأستخباري وعندما يعود ( الهامل ) للغرفة الصفية لم يكن اي منا يسأله ماذا حصل لانه أمر معروف من الزيارة بالضرورة أما الطلاب الذين يريدون (حفظ خط الرجعة) مثلي فيشطحون بمخيلتهم ليرسموا مناظر وصورا طبيعية فيتم الاكتفاء بعصاة الاستاذ على الايادي ومحيط الجسم عندما لا تعد الايادي الصغيرة قادرة على التحمل..
يبدو ان جينات (البلوط) تجري من ابناء عجلون مجرى الدم.. هذا ما توصل اليه الاستاذ (شعبان) رحمه الله عندما شاهد باقي رسوماتي على كتب اللغة العربية والرياضيات والعلوم وحيث لم تنفع العصا مع بلوط عجلون فلقد اتخذ الاستاذ قرارا تاريخيا تم بموجبه اشراكي في مسابقة على المستوى الوطني لرسم لوحة جدارية مع مجموعة من الطلاب تحت بند ( داوها بالتي كانت هي الداء ) وبالفعل كانت الرسمة الاولى لنا عن الثورة العربية الكبرى والثانية عن معركة الكرامة وعلى مدار سنتين متتاليتين حصلت مدرستنا ولوحاتنا على المركز الاول..
حقيقة لم نستلم اي جوائز او نحصل على كتب شكر وقيل لنا ان هنالك جوائز لم نعرف مصيرها ولكن تم ابلاغنا شفاهة بأننا مفخرة المدرسة وسيقابلنا المدير ولكن شيئا من ذلك لم يحصل وفوجئنا بعد حوالي شهر بأنه قد تقرر تنظيم رحلة لمجموعة فناني المدرسة لمتحف الاردن الوطني في عمان وبالفعل ذهبنا الى هناك وعندما دخلنا كنا نتصرف بطريقة خجولة مشوبة بالفخر وكان الاستاذ عندما يقترب احدنا من لوحة في محاولة لفحصها فيتكفي منه بجحظة لندرك على الفور مصيرنا الجمعي المشترك حيث ان نظام العقوبات الجماعي في منطقتنا لم يكن محصورا فقط بإسرائيل..
بدهشة الأطفال شدتني لوحة لفنان اميركي كانت عبارة عن تحفة فنية لوادي رم.. صحراء جميلة ممتلئة بالالوان لحظة غروب الشمس فيختلط فيها الاصفر بالاحمر بالظلال بالحجارة بالرمال كان مزيجا مذهلا بالفعل مملوءا بالحياة لكن المفاجأة كانت بشيء مختلف تماما..
عندما أقتربت من الصورة تعمدت وضع يدي خلف ظهري لاعطي اشارة للاستاذ انني لا اريد لمس اللوحة ولكن فجأة لم أعد ارى المشهد.. عدت للخلف فإذا باللوحة هي كما هي.. وادي رم !!! اقتربت فلم اعد اشاهد بديع الفن ومن ثم اقتربت اكثر فإذا باللوحة عبارة عن مجموعة من عشرات الالاف من النقاط بالوان مختلفة !!! يتداخل فيها جميع الوان الطيف ومزيجه بشكل فريد وغريب وعجيب.. عشرات وربما مئات الالاف من النقاط يصطف بعضها لجانب بعض بمزيج مذهل عبقري.. الون ازرق واخضر وبني واحمر وابيض واسود واصفر..الخ كان شيئا مذهلا وعبقريا بكل معنى الكلمة..
اليوم بعد ما يزيد على ثلاثة عقود استرجع تلك اللوحة الاستثنائية واتأمل في رسالة ذلك الرسام وماهيتها فالتعدد والتنوع والتناغم والمحافظة على الانسجام ما بين المكونات يشكل اثراءا حضاريا عظيما والقبول بالفسيفساء الحضاري سيشكل حتما لوحة بديعة للإنسانية ولا يمكن الانتقاص من أهمية كل نقطة ووظيفتها في تشكيل حالة التناغم.. لكن هل حدود الفكرة تقف عند هذا الابداع !!؟؟ الرسائل كثيرة وربما أهمها على الاطلاق أن الاغداق في التفاصيل يجعلنا لا نرى الصورة الكلية..
على عتبات المشهد الحضاري القادم وما سينشأ عنه من متغيرات لدى الجيل في القيم والهوية ومختلف مناحي الحياة وانشغالنا في يوميات صراع الزمن والاعلام ولقمة الخبز لا يجوز أن ننسى أننا كنا ولا زلنا ولابد ان نبقى (أردنيون)..
مدار الساعة ـ نشر في 2018/11/27 الساعة 08:33