إلى أين يأخذنا التضليل؟
مدار الساعة ـ نشر في 2018/11/17 الساعة 00:42
لنعترف جميعا أننا وقعنا في التضليل، وانطلت علينا قصة مفبركة عن اختطاف أحدهم وتعذيبه إلى حد تهديده بالقتل على خلفية موقف فكري، ولنعترف أننا جميعا أخذنا هذا المدعي على محمل الجد ونفخنا بالقصة وتباكينا على حالة الانفلات ونسجنا من الخيال الكثير من الأردية الرثة، بينما فعلت غريزة القطيع فعلها على شبكات التواصل الاجتماعي وحولت هذا الادعاء الزائف إلى حلبة للاستقطاب الشعبوي والثقافي الذي يكاد في كل مرة أن يقسم المجتمع ويراكم طبقات من الوهم والكراهية والتزييف.
تلك القصة المملوءة بالعواطف والمصالح والتحريض تصلح اليوم أن تكون علامة فارقة تدل على الآليات الجديدة التي تعمل على تسطيح الوعي العام ؛ فرغم الإغراق في المعلومات والأخبار والانفتاح على كل المصادر إلا أنه بات من السهل اختطاف الحقيقة بحثا عن مصالح وشعبوية تافهة في الوقت الذي تقود فيه هذه الحالة من الفوضى والإرباك وردود الأفعال السريعة والقابلة للتصديق وأخذ الأكاذيب القاتلة على محمل الجد إلى مرحلة خطيرة من تعميم التطبيع مع الكذب والتضليل.
صحيح أن تكنولوجيا الاتصال والشبكات الاجتماعية الجديدة أصبحت ساحة لترويج الأخبار الكاذبة وصناعة الأوهام، لكن علينا أن نتساءل هل في تكويننا الثقافي قابلية أن تنطلي علينا الأكاذيب والفبركة أكثر من غيرنا، وهل ثمة فروق في التطور الاجتماعي والثقافي بين المجتمعات تجعلها في مرحلة ما أقل استعدادا للتفكير النقدي والشك والتحقق.
توصف وسائل التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي بأنها تنتج استعدادا جماعيا لاستهلاك الأكاذيب وجاذبية للاسترخاء في قبولها، وبالتالي تخلق عملية تكرار الأكاذيب سلوكا من الكذب الجماعي والاستهلاك الجماعي للأكاذيب، ما يجعل من مستهلكي هذه الوسائل أقل استعدادا لقبول التسامح وأكثر تطبيعا مع الكراهية، أي أن الأكاذيب تتجسد على شكل أيديولوجيا ثقافية واجتماعية، وأخطر ما تكون حينما تصبح أداة لأدعياء الفكر والثقافة.
في الدراسات الثقافية تم تقسيم العالم إلى تسع مناطق ثقافية وفق اللغات والأديان وأنماط التعبيرات الثقافية، وفي ضوء خلفية محددات العولمة الثقافية والاتصالية السائدة فإنه لا يمكن الحديث عن أي ظاهرة اتصالية في سياق وطني بعينه، فالاتصال والتعبيرات الثقافية والسياسة المعاصرة لا تعترف بالحدود السياسية والطبيعية، ولكن ثمة تفاوت بين بيئة ثقافية وأخرى، وهذا ما يحدث في حجم جاذبية المجتمعات العربية لصناعة التضليل المعاصرة والتي تتفوق على مجتمعات عديدة أخرى، الأمر الذي يعود لأسباب تاريخية وثقافية ترتبط بالأنماط الثقافية التقليدية الموروثة ونظم التعليم والاتصال السائدة وحجم التناقضات في الحياة السياسية والاجتماعية؛ فالمجتمعات الانتقالية عادة ما تكون بيئة خصبة لصناعة التضليل.
شخص واحد استطاع بأدوات بسيطة وبالادعاء تضليل الرأي العام ووسائل الإعلام وتضليل الحكومة والمؤسسات وخلق حالة من التوتر الثقافي والاجتماعي ؛ إن حادثة مؤسسة ( مؤمنون بلا حدود) ينبغي أن نتعلم منها درسا قاسيا من بدايتها إلى نهايتها وأول من يجب أن يتعلم منها التيارات المدنية والديمقراطية التي بدون شك هي الأكثر خسارة من نتائج هذه الحادثة التي هشمت من مصداقيتها، وذلك من خلال المراجعة النقدية وترك مساحة للآخر وهو الأمر الذي لا يعني أن آخرها أكثر مصداقية بل إدراك حقيقة أن الجدل التاريخي حول القيم الثقافية ينتج التغيير بالتوافق والصراع مع الخارج وبالنقد الذاتي والمراجعة الداخلية.
المؤسسة الثقافية والإعلامية بمختلف أشكالها وأالوانها عليها اليوم أن تتخذ من هذه القصة مثالا قويا لتعليم المجتمع إلى أين قد يقودنا التضليل، وأن أي فئة من المجتمع قد تتورط في صناعة التضليل وأن هذه الصناعة الرديئة ليست حكرا على فئة فاسدة من المجتمع أو السياسيين بل أخطر ما تكون حينما يمارسها تجار الفكر والثقافة.
الغد
مدار الساعة ـ نشر في 2018/11/17 الساعة 00:42