الفساد الأصغر
الضجة التي نسمعها حول ملف مستشفى البشير، واكتشاف مئات العمال الذي يتم دفع رواتبهم، دون ان يداوموا فعليا، ثم اعلان رئيس الوزراء احالة الملف الى مكافحة الفساد، ضجة متوقعة، لكن هذا الواقع الكارثي يمتد الى مستشفيات وبلديات ومؤسسات كثيرة داخل الاردن.
هذا يعني اننا الشعب الاكثر شكوى من فساد الكبار، لكن لا احد يمتنع الا من رحم ربي، عن ممارسة الفساد الاصغر، اذا تمكن من ذلك، والا بما نفسر المعلومات التي تتحدث عن قبول العمال المدرجة اسماؤهم في كشوف الرواتب، قبول خمسين دينارا شهريا، مقابل ان تأخذ الجهة المشغلة بقية الراتب، وبماذا نسمي ايضا قبول موظفين، عدم الدوام نهائيا، في مؤسسات اخرى، ويتم التستر عليهم، ويستلمون رواتبهم بشكل عادي جدا، دون ان يستيقظ ضمير احد، لا من ناحية دينية بوصفه مالا حراما، ولا من ناحية قانونية باعتباره يخالف القوانين والتعليمات.
كلما تم الحديث عن الفساد الاصغر، قفز من يقفز، ليقول ان الدولة مسؤولة، بسبب تردي الاوضاع الاقتصادية، وهذا هو اسهل اتهام، وكأننا نشرعن قاعدة جديدة، فإذا واجهت الفقر او الحاجة، فمن المسموح لك ان تسرق، واذا رأيت غيرك يسرق، فلماذا لا تسرق، وتطعم عائلتك مالا مسموما؟!.
الجهات الرسمية، عليها ان تكافح بشدة، من اجل تنظيف المؤسسات العامة، من هكذا ظواهر، من التنفيعات، مرورا بتفشي الرشى، ولولا الكلفة القانونية لقيل ما لا يقال، عما يجري في بعض المؤسسات، وخصوصا، تلك التي يمكن التكسب منها، عبر الخدمات المقدمة للناس، او الملفات التي يتم استسقاء المال من اجل تمريرها او اغلاقها او التعامل معها.
لا احد يريد استبدال الحديث عن الفساد الاكبر، بالفساد الاصغر، وكأننا نريد نقل المعركة من ضفة الى ضفة اخرى، لكن يراد القول بشكل واضح، ان الفساد الفردي الصغير، يتفشى في كل مكان، وهناك تحولات في البنية الاجتماعية، تبدأ من بيع الصوت الانتخابي بعشرين دينار، وصولا الى من يقبض راتبه دون ان يداوم، مرورا بعشرات القصص التي يندى لها الجبين، بعد ان تفشت ثقافة «الفهلوة» وغابت المعايير القانونية والاخلاقية والدينية.
النقطة الاهم، تتعلق بالحمايات المتوفرة، وكل شخص، او مؤسسة، او شركة، او جهة، تتورط في قضايا فساد، تتنبه مسبقا الى ضرورة وجود حمايات وشراكات، من اجل ادامة الفساد، ولاتصدقوا ان فاسدا واحدا، او مجموعة فاسدة، قادرة ان تواصل فعلها، دون ان تستحدث شراكات مدفوعة الثمن، وهي شراكات لها امتدادها في اكثر من موقع، وقادرة على الثأر او الانتقام او تصفية الحسابات، او عرقلة المتابعة او تطبيق القانون، واذا كان هناك من ضربة يجب ان توجه، فيجب ان توجه علنا، الى من يحمي كل هذه الممارسات، قبل من يفعلونها اساسا.
ثقافة النهب باتت سائدة، ولو قررت الدولة، ان تفتح عيونها جيدا، لايقظت الموتى من قبورهم، حين تكتشف كيف تجري الامور في القطاع العام، وتبادل المنافع، وحالة التستر السائدة؟.
اذا امتلكت الجهات المختصة الشجاعة، لخرجت واعترفت ان قصة مستشفى البشير، ليست الاولى من نوعها، ولو عادت الدولة الى الحسابات المالية بأثر رجعي، للسنين الفائتة، مع بعض شركات الخدمات، او ما يجري في كل القطاعات، خارج الصحة، مثل بعض البلديات، وبقية المؤسسات، لوجدت ما لا يمكن لاحد تصوره.
لقد آن الاوان ان تتم مراجعة ومراقبة كل اسس الانفاق المالي، داخل المؤسسات الرسمية، من التعيينات وصولا الى العطاءات، مرورا بتوظيف الصلاحيات لممارسة الفساد المستتر، فيما الامر الثاني، العودة بأثر رجعي الى حسابات كثيرين، ظهر عليهم المال بعد تقاعدهم، او اداروا علاقات حكومية مع القطاع الخاص، على مستويات مختلفة، واستفادوا وافادوا، في هذا الزمن الذي بات فيه كل شيء متوقعا.
حين يشيع الفساد الاصغر، يصير في مجمله، ومجمل تأثيره، اسوأ بكثير من الفساد الاكبر، وسواء جاء نتيجة للفساد الاكبر، او تتبعا له، او تأثرا به، فالنتيجة واحدة...