ثمن السلم
مدار الساعة ـ نشر في 2018/10/03 الساعة 10:53
الدكتور محمد القضاة عميد كلية الاداب - الجامعة الاردنية
السلم والسلام والاستقرار هدف يسمو فوق كل هدف، ويسعى اليه الانسان أنى كان وفي كل مكان، وترايسي شمعون صاحبة هذه السيرة» ثمن السلم» دفعت في حياتها فواتير الألم وعدم الاستقرار وعاشت قسوة الحرب الأهلية وذاقت ويلاتها وآلامها في وطنها ولاقت اسرتها نهاية مأساوية طبعت بالحروف والكلمات والفصول في هذه السيرة ثمن السلم، وهي نتيجة حقيقية لما احست فيه وذاقته في تفاصيل حياتها، ومن يقرأ ثمن السلم يدرك حجم المعاناة والصعاب التي عاشتها في مراحل عمرها كلها بحلوها ومرها، قرأتُ الكتاب السيرة فثارت امامي الاسئلة الواحد تلو الاخر، ايقنت في اثناء البحث عن الإجابة استحالة العيش في امواج الحروب وعدم الاستقرار، وان السلام والامان والحوار هي الحياة برمتها، وفيٌّ هذه السيرة تستعيد الكاتبة ترايسي داني شمعون، فصولا دقيقة ومهمة من سيرتها الذاتية بتحوّلاتها وتداخلاتها ومواقفها المريرة التي يقف لها شعر الرأس لشدتها وقسوتها وتعقيداتها بين السلم والحرب، وفيٌّ ثمن السلم تستعيد بعين الراوي البصيرة كثيرا من سيرتها الشخصية روتها بتقنيات سردية تداخلت فيه الرواية التسجيلية بالسيرة الذاتية، وتقرأ فيها رحلة سلسة ولغة جذابة ملامح مرحلة غاية في الدقة والتصوف والخوف والامل، وتطل على بحر متلاطم من الامواج وانهار من الدماء خلفتها تلك الحرب التي كانت تطحن البشر والشجر والحجر دون حساب لأي معنى للإنسان، وقد رصدت ترايسي شمعون بقلمها وفكرها وروحها مئات القصص والحكايات كانت تتوالد الواحدة من رحم الاخرى دون حساب للتجاذبات والمواقف المتقاطعة؛ لأنها معنية بالحقيقة كما عاينتها وعاشتها، فلم تضع حجابا على عينيها ولم تزين مواقفها؛ لانها كانت تكتب كما ترى، وتعبر كما تشعر، وتسرد الحكايات كما في واقعها، واكثر ما يلفت النظر في مفتتح السيرة عبارات مؤثرة اختارتها بعناية وعمق؛ الأولى لألبرت أينشتاين يقول فيها:» من يُهمل الحقيقة في الامور الصغيرة لا يمكن الوثوق به في الامور المهمة»، وهنا تؤكد على ادق التفاصيل في سيرتها دون مكياج، تكتبها شاهد عيان، وتترجمها للاجيال كي يتعلموا الدقة والمهنية، وان ما كان يجري لا يمكن لأحد ان يتجاوزه لفظاعته وعظّم احداثه، ولعل عبارة إرنست همينغواي» ثمة أحداث عظيمة لدرجة أنه يجب على الكاتب إن كان مشاركاً فيها ان يكتب بصدق بدل ان يتولى تحويرها من خلال التلفيق»تؤكد تلك الحقيقة التي عاشتها وشاركت فيها وذاقت فصولها ألما وحزنا وفقداً، فقد فقدت والدها داني شمعون وهو ابن الرئيس اللبناني كميل شمعون وكان داني أبرز القادة المسيحيين في الحرب الأهلية، وهو الرئيس السابق لحزب»الوطنيين الأحرار» قتل وعائلته خلال الحرب الأهلية اللبنانية؛ ولذلك لا تجد في هذه السيرة غير قصص حقيقية كُتبت بمداد من الألم والحقيقة المرة التي لا يشوبها بهرجة او تحويرا، اضافة الى مقاطع شعرية من قصائد»الحب فقط»و»لا مكان للاختباء»و»ألمي حقيقي»و»صلاة رسمية»وغيرها الكثير وجميعها لترايسي نفسها، وجميعها تقطر صوراً من الألم والجمال والحياة. تمزج السيرة»ثمن السلم»الذاتي بالهم العام بالمراحل السياسية بتقاطعاتها بعيشها الجميل وتحدياتها اللاحقة بوصف دقيق لمرحلة حكم جدها في الفترة الذهبية التي أطل فيها لبنان على محيطه العربي والدولي بعلاقات دافئة اساسها الاحترام، وتشعر وانت تقرأ فصول السيرة انك امام شخصية جبارة عركتها الحياة بألوانها الرقيقة والغريبة بحلاوتها وقسوتها دون ان يؤثر ذلك على حنكة السرد وتقنياته الفنية، وحين تقرأ تستوقفك هذه الشخصية عند محطات من الارث العظيم باوجاعه تقول:»لتتراجع عما فعلناه، ولنمحُ ما رأيناه، لا مكان للاختباء، لا شيء سوى الانزلاق الى خضم الارتباك، حيث يحاكي العقل الوهم، حياتنا قاتمة، ولدت في الظلام، لا اذكر المكان الذي جئت منه، قبل سقوطي على الشاطئ». هكذا يتداخل الشعري بالنثري، والخاص بالعام، هكذا قرأنا سيرة»أم الذهب»حيث كانت في سنواتها الاولى نمراً مأسوراً في قفص لشدة شعورها بألم المنفى الطوعي في لندن، غير انها كانت تملك إرادة حديدية ورغبة جامحة بالحرية والبحث عن السلام؛ خاصة انها عاشت رحلة السفر بين بيروت ولندن والولايات المتحدة وهي تحمل معها هذا الارث الكبير الذي تقرأ فيه قصة لبنان وتاريخه الحديث بسيرة «لا تتبرأ فيها من الماضي الدامي للوطن، ولا من مأساتها الشخصية، بل تعود وتحفر فيهما...»ثمن السلم سيرة جادة ومهمة وغنية بالقصص والحكايات للسفيرة اللبنانية في عمان تستحق القراءة بعمق لانها تعيد كتابة فن السيرة الذاتية بأسلوب فني لا تهمل فيها حرفا تأسرك في رحلتها وجمال لغتها ودقة وصفها وحضور شخوصها وانسنتها.بقي ان نقول ما اجمل السياسي حين يبوح بيومياته وسيرته لكي تكون درسا حيّا وانموذجا جادا للاجيال خاصة انّ ترايسي شمعون حالة سياسية ودبلوماسية تُعدّ من المعتدلين في الساحة السياسية اللبنانية وتفضل بناء ديمقراطية حديثة. الرأي
مدار الساعة ـ نشر في 2018/10/03 الساعة 10:53