الرواشدة يكتب: خصخصة البلديات في الأردن: الفرص والتحديات وآفاق المستقبل

أنس الرواشدة
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/31 الساعة 00:28
شهدت إدارة الشأن المحلي في الأردن تحولات هيكلية مهمة خلال العقود الماضية، كان من أبرزها التوجه نحو تعزيز دور القطاع الخاص في تقديم الخدمات العامة التي كانت حكراً على البلديات. تمثل خصخصة البلديات أو إشراك القطاع الخاص في إدارة الخدمات البلدية أسلوباً إدارياً يهدف إلى رفع الكفاءة التشغيلية وتحسين جودة الخدمات المقدمة للمواطنين، وذلك استجابة للضغوط المالية المتزايدة التي تواجه الحكومات المحلية والحاجة إلى الاستثمار في البنية التحتية. إن بحث موضوع خصخصة البلديات في السياق الأردني يتطلب تحليلاً معمقاً لدوافعه، وتطبيقاته الفعلية، والآثار المترتبة عليه، خاصة في ظل البيئة التنظيمية والاجتماعية الخاصة بالمملكة.

تأتي فكرة الخصخصة في الأردن مدفوعة بعدة عوامل رئيسية. أولاً، التحديات المالية الهيكلية التي تعاني منها العديد من البلديات، حيث تتسم موازناتها بالاعتماد الكبير على المنح الحكومية والرسوم التقليدية غير الكافية لتغطية تكاليف التشغيل والتطوير. ثانياً، الحاجة إلى إدخال الخبرات الإدارية والتقنية الحديثة التي يمتلكها القطاع الخاص، مما يمكن من تطبيق أفضل الممارسات العالمية في إدارة النفايات، صيانة الطرق، وإدارة المرافق العامة. ثالثاً، يهدف التحول إلى نموذج الشراكة بين القطاعين العام والخاص إلى تخفيف العبء عن الموازنة العامة للدولة وتشجيع الاستثمار الخاص في البنية التحتية المحلية.

على الرغم من أن الخصخصة بالمعنى الشامل للبيع الكامل للأصول البلدية ليست هي السائدة، فإن التطبيق الفعلي في الأردن يميل نحو نموذج "التعاقد على الخدمات" أو "الإدارة المشتركة". من أبرز الأمثلة التطبيقية في الأردن هو قطاع إدارة النفايات الصلبة، حيث تم إسناد مهمة جمع ونقل ومعالجة النفايات في العديد من المحافظات إلى شركات متخصصة عبر عقود طويلة الأمد. وقد أظهرت بعض التجارب في محافظات مثل عمان وإربد، تحسناً ملحوظاً في كفاءة الجمع وتقليل التكاليف التشغيلية على المدى الطويل، بفضل استخدام تقنيات حديثة في الفرز والمعالجة. كما شملت بعض التجارب خصخصة جزئية لبعض المرافق الترفيهية أو مواقف السيارات في المدن الكبرى بهدف تعظيم إيراداتها وتحسين صيانتها.

ومع ذلك، فإن مسار الخصخصة في الأردن محفوف بالتحديات. التحدي الأبرز يكمن في تحقيق التوازن بين الكفاءة الاقتصادية والمسؤولية الاجتماعية. هناك قلق مشروع من أن يؤدي السعي وراء الربح إلى تهميش المناطق الأقل جاذبية استثمارياً، أو رفع الرسوم بشكل يفوق قدرة الشرائح الاجتماعية الأفقر على تحملها. فخدمات مثل المياه والصرف الصحي، إذا تم خصخصة إدارتها بالكامل، قد تواجه مقاومة شعبية إذا لم يكن هناك إطار تنظيمي صارم يضمن استمرار وصول هذه الخدمات للجميع وبأسعار معقولة.

إضافة إلى ذلك، تشكل البيئة التشريعية والتنظيمية تحدياً كبيراً. يتطلب نجاح الشراكة مع القطاع الخاص وجود هيئات رقابية بلدية قوية ومستقلة، قادرة على صياغة عقود واضحة وعادلة، ومتابعة التزام المتعاقدين بالجودة والمواصفات المتفق عليها. في كثير من الحالات الأردنية، لا تزال القدرات الرقابية للعديد من البلديات تحتاج إلى تعزيز، مما قد يؤدي إلى ضعف في الرقابة وإساءة استخدام للسلطات الممنوحة للقطاع الخاص. كما أن مقاومة التغيير من داخل الجهاز البلدي نفسه، والخوف من فقدان الوظائف، يمثلان عائقاً اجتماعياً وإدارياً لا يمكن إغفاله.

من منظور التنمية المحلية، يجب أن تركز الخصخصة على تحقيق أهداف أوسع تتجاوز مجرد توفير الخدمة. يجب أن تكون مصحوبة بآليات تضمن نقل المعرفة والخبرة إلى الكوادر البلدية المحلية، لتمكينها مستقبلاً من استعادة إدارة بعض الخدمات بكفاءة أعلى أو التفاوض بفاعلية أكبر. كما أن الشفافية في عمليات طرح العطاءات والتعاقدات تعتبر حجر الزاوية لضمان النزاهة ومكافحة الفساد، وهي نقطة حساسة في أي عملية إسناد خدمات عامة للقطاع الخاص.

للمضي قدماً في مسار إصلاح إدارة الخدمات البلدية في الأردن، يجب تبني استراتيجية وطنية متكاملة للخصخصة. هذه الاستراتيجية ينبغي أن تبدأ بتحديد دقيق للخدمات القابلة للخصخصة، مع الإبقاء على الخدمات ذات الطبيعة السيادية أو الحساسة استراتيجياً تحت الإشراف الحكومي المباشر. يجب تطوير نماذج تمويل مبتكرة لا تعتمد فقط على الرسوم المباشرة، بل تستفيد من صيغ مثل البناء والتشغيل والتحويل (BOT) للمشاريع الرأسمالية الكبرى. علاوة على ذلك، يظل بناء القدرات البشرية والتقنية في البلديات أمراً حيوياً لضمان أن الخصخصة ليست هروباً من المسؤولية، بل إعادة تعريف لدور البلدية كمنظم ومراقب وميسر للتنمية المحلية.

في الختام، تمثل خصخصة الخدمات البلدية في الأردن خطوة ضرورية نحو تحقيق استدامة مالية وكفاءة تشغيلية أفضل للمدن والمناطق. وقد أثبتت بعض التطبيقات نجاحاً في تحسين مستويات الخدمة. ومع ذلك، يتطلب تعميم هذه التجربة بنجاح معالجة جذرية للتحديات التنظيمية والرقابية والاجتماعية. إن مستقبل الإدارة المحلية في الأردن يعتمد على قدرة صانعي القرار على الموازنة ببراعة بين إمكانات القطاع الخاص وضرورة الحفاظ على البعد الاجتماعي والرقابي للخدمات العامة وضمان أن تخدم هذه الإصلاحات مصالح المواطنين أولاً وأخيراً.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/31 الساعة 00:28