الشهوان تكتب: المرأة بين مد الطموح وجزر الموروث

د. ريما فهد الشهوان
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/30 الساعة 10:27
في كل حقبة من حقب الزمن، تقف المرأة على حافة التاريخ والحاضر معاً، حاملة بين كفيها ثقل تراب الماضي واتساع سماء المستقبل، وتنسج وجودها من ضياء الروح وإرادة الجبال التي لا تلين. تتجلّى أنوثة العصر ككيان مشرق، من نار التحدي ونور الإيمان، واقفة على برزخ شفيف يفصل بين عالمين متقابلين؛ عالم الواجبات المتجذّر في أعماق التاريخ والأعراف، وعالم الطموحات الممتد كأفق لا ينفد من الإمكانات والآمال. ازدواجية الأدوار تتجاوز التراكم اليومي للمهام لتتحوّل إلى حوار وجودي يمس صميم الهوية، حيث تعيد الأنثى تشكيل جوهرها مع كل بزوغ فجر، ساعية لملمة شتات نفسها بين «أنا» التي تحلُم وتشتاق، و«أنا» التي تتحمّل وتصون.

ويحتفظ القلم الأنثوي بكؤوس من زجاج ذي قعرين، يتجلى فيها انشطار الوعي بين بركانين: بركان التكاليف القديمة التي تقذف حُمم التوقعات المتحجّرة، وبركان الإرادة الحديثة التي تفجّر عيون الحلم على أرض لم تشهد قط مياه الإمكان. فالمرأة اليوم ليست على الحافة فقط، بل في لب العاصفة التي تنسج من تصادم الأضداد نسج وجودها الجديد. ففي هذا الفضاء الملتبس، تكمن الإشكالية الجوهرية، كيف تحوّل المرأة هذا الانشطار الوجودي إلى وحدة مزدوجة، تحافظ بها على جذرها التاريخي دون أن تقطع أجنحتها المستقبلية؟ تسبح بين ضفاف الذاكرة الجماعية وأفق الفرادة الخاصة، فتخلق من هذا السباح فنّاً وجدانيّاً تتصالح فيه الأنماط: يصبح الواجب لغزاً تُفك طلاسمه ببراعة القلب، ويتحوّل الطموح إلى حكاية تُكتب بحروف الإرادة على صحائف الوجود. فالمرأة الحديثة لا توازن بين الأدوار فقط، بل تبني بكل دور عالماً مكاملاً، تصهر فيه معاني الأمومة والزواجية والمهنية في بوتقة الإنسانية الصافية. ولذلك تظهر الحكمة الأنثوية العميقة ليست في تجنّب التصادم، بل في استخدامه وقوداً للارتقاء: كل تحدٍ يصبح مفتاحاً تستكشف به مكاناً جديداً في نفسها، وكل مسؤولية تتحول إلى جسر من الضوء يربط بين ما هي عليه وما تشتهي أن تكون، وكل إنجاز ليس نقطة نهاية، بل بذرة نور تُزهر في حدائق الواقع الثقافي والاجتماعي، فتثمر أفقاً أعرض لكل الذين يسيرون في دربها.

المسؤوليات العاطفية والاجتماعية تثقل الواقع كجبل هائل، وتستهلك الروح قبل الجسد، فيما يلوح الطموح كمنارة بعيدة في عرض البحر، تغري بالإبحار بعيداً عن شواطئ المألوف. هذا التجاذب يولّد اغتراباً مزدوجاً؛ فالسكينة تلوح في لحظة الانكفاء، ونشوة الانتصار تتخللها غصة تأنيب من ثقافة لوم متجذرة. من هذا الصراع تولد عظمة المرأة، إذ تتحول الضغوط إلى وقود، والتحديات إلى منصة لإعادة صياغة حدود الممكن، فتسير في فضاء واسع قوة فاعلة للتغيير الاجتماعي والثقافي والسياسي، وتثبت أن تأثيرها يمتد إلى كل شؤون الحياة، من الأسرة إلى المجتمع، ومن التعليم إلى السياسة.

تظهر قوة المرأة في التحليق بجناحين متساويين؛ جناح العطاء الذي يحيي الآخرين، وجناح الإنجاز الذي يحيي الذات. كل خطوة تخطوها على طريق طموحها، وكل قرار تتخذه دفاعاً عن ذاتها، يشكل شهادة على قدرتها على الصمود والإبداع والتأثير في حياة الآخرين. في مسيرتها اليومية، تعيد صياغة القيم الاجتماعية والثقافية، فتثبت أن المجتمع لا ينهض إلا بمشاركتها الكاملة والفعلية، وأن تقدم أي أمة يقاس بما تمنحه للمرأة من مساحة للتمكين والإبداع. فلا تقف المرأة المعاصرة عند حدود الأسرة والمحيط المباشر، بل تتحرك كمحور للتغيير البنّاء في الثقافة والسياسة والتعليم والاقتصاد، فتقود المشهد بوعيها وإصرارها، وتعيد صياغة الممارسات التي تحد من طموحها، فتزرع أفقاً جديداً يربط بين الإرث والتجديد، بين التقاليد والحريات، وبين الوعي الفردي والمسؤولية الجماعية. كل إنجاز لها يصبح شعلة مضيئة تهدي الآخرين، وكل مواجهة للتحديات تبني جسراً للجيل القادم، يجعل مكانة المرأة رمزاً للقدرة على الصمود والتجدد والإبداع.

وفي نهاية المطاف، تصبح المرأة العالم بحد ذاته حين تتصالح الأضداد في كفيها، فتجمع بين البناء الأسري وصناعة التأثير الاجتماعي والثقافي والسياسي. طموحها يمثل الرئة التي يتنفس بها الواقع ليبقى حيّاً ومتجدداً، وحملها لمشعل التغيير يجمع بين الحكمة والجرأة والإبداع، ليصبح نموذجاً للقوة المبدعة التي لا يستهان بها في كل زمان ومكان. التوازن يتحول إلى رقصة أبدية متناغمة على إيقاع الحياة المتجددة، تجعل المرأة قلباً نابضاً في تاريخ الإنسانية، رمزاً للصمود والإبداع والقدرة على صناعة الفرق، مؤمنة أن المستقبل لا يُبنى إلا بمشاركتها الكاملة والحقيقية، وأن وجودها هو عنوان التغيير، وإشراقة الأمل، وضمانة استمرارية المجتمعات.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/30 الساعة 10:27