النتائج الإيجابية تتكلم.. قراءة مهنية في سياسات البنك المركزي (2-1)

مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/29 الساعة 21:53
د. حمزة العكاليك




في فضاء السياسات العامة والاقتصاد الكلي، تبرز المؤسسات النقدية كركائز استقرار لا تميل مع أهواء التقلبات السياسية. وفي الحالة الأردنية، يأتي البنك المركزي الأردني كأحد النماذج الأكثر نضجا للمؤسسة التكنوقراطية التي تمارس أدوارها بمهنية صامتة تتجاوز ضجيج السجالات الإعلامية، فغالباً ما تُفرز الفجوة المعرفية بين التعقيد الفني للعمل المصرفي وممارساته الفُضلى، وبين الطرح السياسي العاطفي، سوء فهم للممارسات الاحترافية، وهو ما تجلى بوضوح في بعض الملفات التي يديرها البنك المركزي.



ففي مطلع العام الحالي، تعرض البنك لاتهامات بتبديد الأصول الوطنية عبر بيع الذهب. بيد أن التحليل المعمق للبيانات المالية المدققة والسياسات الاستثمارية يكشف أن ما جرى لم يكن تبديداً، بل كان درساً متقدماً في إدارة المحافظ السيادية واستغلال أدوات المراجحة (Arbitrage)، لتعظيم قيمة الاحتياطيات الوطنية في وقت بلغت فيه أسعار الذهب ذروة تاريخية.

تعد إدارة احتياطيات الذهب في البنوك المركزية، عملية ديناميكية تخضع لمعايير صارمة تهدف إلى تحقيق التوازن بين السيولة والأمان والعائد. وفي مطلع العام الحالي، ومع وصول أسعار الذهب العالمية إلى مستويات غير مسبوقة تجاوزت حاجز 4000 دولار للأونصة، مارس البنك المركزي الأردني دوره كمدير محترف للمحفظة الاستثمارية الوطنية، فالاتهامات التي وجهت للبنك ببيع كميات من الذهب بمليارات الدنانير كانت تفتقر إلى فهم الفوارق بين البيع النهائي وعمليات المراجحة، التي تهدف إلى إعادة هيكلة الأصول.

وأكدت البيانات المالية اللاحقة هذه الحقيقة، إذ لم ينخفض احتياطي الذهب لدى البنك المركزي، بل سجل ارتفاعاً ملحوظاً، حيث بلغت قيمة الاحتياطيات نحو 6.576 مليار دينار في نهاية شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، مقارنة بـ4.257 مليار دينار في نهاية العام الماضي. هذا الارتفاع بنسبة تفوق 54 %، يعكس نجاح البنك في شراء كميات إضافية بأسعار تفضيلية بعد بيع جزئي عند القمم السعرية. ومن منظور إحصائي، ارتفعت كمية الذهب من 2.304 مليون أونصة إلى 2.335 مليون أونصة خلال الفترة نفسها. هذا النهج يتماشى مع التوجهات العالمية للبنوك المركزية التي بدأت في العامين الماضي والحالي، إعادة تقييم دور الذهب كملاذ آمن في ظل تقلبات العملات الورقية وتصاعد المخاطر الجيوسياسية.

وفي ملف آخر، يبرز موضوع التضخم، بوصفه اختصاصاً جوهرياً للبنوك المركزية. فقد شهد العالم خلال السنوات الماضية موجات تضخمية طالت كبرى الاقتصادات، إلا أن البنك المركزي الأردني، نجح عبر سياسته النقدية التشددية، التي لم تسلم من انتقادات البعض في حينها، في الحفاظ على الاستقرار النقدي الذي يشمل استقرار الأسعار بمستويات نموذجية، مما وفر حماية حقيقية للمداخيل والمدخرات الوطنية، وكان ذلك بمساندة العديد من الإجراءات التي اتخذتها الحكومة لاحتواء الضغوط التضخمية. وقد تجلى هذا النجاح في خفض معدل التضخم من 4.2 % في العام 2022، إلى نحو 2.1 % في العام 2023. ثم إلى 1.56 % في العام الماضي، و1.8 % خلال الأحد عشر شهراً الأولى من العام الحالي. ولا تنعكس هذه المستويات المُستقرة على الجوانب المعيشية للمُستهلكين فحسب، بل تُعد أيضاً متطلباً أساسياً لجذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة، التي سجلت تدفقات صافية بلغت 744.4 مليون دينار، في النصف الأول من العام الحالي.

إن أي حديث عن نجاح إدارة الملفات النقدية والمصرفية، كإدارة احتياطيات الذهب وتوجيه السياسة النقدية وضبط التضخم، لا يمكن أن يتم بمعزل عن انعكاسته على صورة الاقتصاد الأردني خارجيا، ففي نهاية المطاف، تختبر هذه السياسات لا في الخطاب المحلي، بل في تقييم المؤسسات الدولية للأسس الاقتصادية، وعلى رأسها مؤسسات التصنيف الائتماني الدولية، المرآة التي يرى من خلالها العالم كفاءة الإدارة الاقتصادية لأي دولة. ففي العام الماضي، حقق الأردن إنجازاً غير مسبوق برفع تصنيفه الائتماني من قبل كبرى الوكالات العالمية، إذ قامت وكالة (S&P) برفع تصنيف الأردن إلى BB- مع نظرة مستقبلية مستقرة، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها رفع للتصنيف من قبل هذه الوكالة منذ 21 عاماً. وأرجعت الوكالة هذا القرار إلى المرونة الاقتصادية العالية، ونجاح الحكومة في تنفيذ الإصلاحات الهيكلية، والدور الحاسم الذي لعبه البنك المركزي في الحفاظ على الاستقرار النقدي، علاوةً على متانة الجهاز المصرفي الأردني. وبالمثل، رفعت وكالة (Moody’s) تصنيف الأردن إلىBa3، مشيدةً بكفاءة السياسات المالية والنقدية وقدرة المملكة على امتصاص الصدمات الخارجية. وقد نجح الأردن في الحفاظ على هذا الانجاز في العام الحالي، في وقت كانت تشهد فيه المنطقة تعمقاً للاضطرابات الجيوسياسية نتيجة استمرار الحرب في غزة، إلى جانب اندلاع الحرب في إيران.

إن هذه الترقيات الائتمانية ليست مجرد أرقام بروتوكولية، بل هي صكوك غفران اقتصادية تخفض تكلفة التمويل الخارجي وتزيد تنافسية السندات الأردنية في الأسواق الدولية، وتجلت أهميتها في سندات اليوروبند التي قامت الحكومة بإصدارها بنجاح في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، بقيمة 700 مليون دولار التي حققت أسعار فائدة تقل بمقدار 175 نقطة أساس، مقارنة بإصدار العام 2023. كما أنها تعكس ثقة المؤسسات الدولية في أن البنك المركزي الأردني يمتلك الأدوات الكافية للدفاع عن الدينار، حيث بلغت الاحتياطيات الأجنبية مستويات قياسية وصلت إلى 24.59 مليار دولار في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، وهو ما يكفي لتغطية مستوردات المملكة لمدة تتجاوز 8.8 شهر، وهي نسبة تفوق المعايير الدولية المتعارف عليها.

خلاصة القول إن القرارات المصرفية والفنية تتُخذ بحكمة وبحسب البيانات والتحليلات الاقتصادية والمصرفية، التي لا يجب أن يُختزل فهمها أو أن يتم تقييمها عبر الطرح السياسي العاطفي الذي غالباً ما يغفل التعقيد الفني للعمل المصرفي، ويشوه صورة الممارسات الاحترافية. فالأرقام التي لا تقبل التأويل تقول كلمتها بوضوح: الذهب في ازدياد، التضخم تحت السيطرة، التصنيف الائتماني متصاعد. ويبقى المسار الاحترافي للبنك، هو الطريق الوحيد نحو أردن آمن مالياً ومزدهر اقتصادياً.

مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/29 الساعة 21:53