حدادين يكتب: الأردن.. التحصين السياسي في قلب الإقليم المضطرب
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/26 الساعة 19:14
ما يُتداول من معلومات في الصحافة العالمية حول تحركات رموز النظام السوري السابق يستدعي قدراً عالياً من الانتباه، لما قد يحمله من تداعيات غير مباشرة على الأردن. فنحن أمام منظومة راكمت خبرة عسكرية وسياسية طويلة، وتشكلت علاقاتها الإقليمية والدولية ضمن تحالفات محددة، أبرزها مع روسيا وإيران، في إطار مقاربات قامت في معظمها على منطق المصالح الصلبة وإدارة الصراع، في سياق كان ولا يزال مشحوناً بطابع طائفي عميق. وبرغم سعي النظام السوري الجديد اليوم لبناء صداقات دولية وإقليمية، ومحاولاته النهوض بالدولة بعد صراع طويل، فإن جذور هذا الصراع لا تزال حاضرة.
ومن هنا، فإن التحصين الأردني لا يجب أن يكون أمنياً فقط في مواجهة احتمالات انتقال نماذج الصراع والتجاذبات من الإقليم المضطرب عبر حدوده الشمالية، بل سياسياً بالدرجة الأولى، عبر امتلاك مشروع وطني واضح لا يقوم على الارتباط العاطفي وحده، مهما كان راسخاً، وإنما على رؤية سياسية تنموية عميقة يكون الشباب في قلبها. مشروع يحوّل القلق الإقليمي إلى دافع للبناء الداخلي، ويترجم الانتماء إلى مشاركة فاعلة، ويصنع جيلاً مؤمناً بالدولة لأنه شريك في قرارها ومستقبلها، فتغدو الجبهة الداخلية محصّنة بالوعي والفرص والعدالة، لا بمجرد الإجراءات أو ردود الفعل.
ورغم ما قد يظهر أحياناً في الساحة الأردنية من مظاهر لفظية ذات طابع طائفي أو جغرافي أو مناطقي، أو محاولات متفرقة لإحياء خطابات سياسية قديمة، فإن الجبهة الداخلية الأردنية أثبتت عبر تاريخها أنها رصينة وحصيفة، تستند إلى عمق وطني راسخ ووعي سياسي متقدم لدى المجتمع. غير أن هذه المتانة، على أهميتها، تحتاج دائماً إلى أعلى درجات الحرص والحماية، لأن صيانة الوحدة الوطنية ليست حدثاً عابراً، بل مساراً مستمراً يتطلب يقظة دائمة، حتى لا تتحول الهامشيات إلى ثغرات يمكن لأي جهة معادية أن تنفذ منها.
وفي هذا السياق، تبرز أيضاً أهمية إيجاد حلول فكرية وعلمية جادة لمواجهة الفكر المتطرف الذي يظهر من فترة إلى أخرى في خلايا مختبئة في ظلام معتم، مستفيداً من الأزمات والفراغات والاحتقانات. وبرغم ثقتنا الكبيرة بالأجهزة الأمنية وكفاءتها في حماية الوطن، إلا أن المواجهة الحقيقية لهذا النوع من الفكر يجب أن تكون سياسية وثقافية وتربوية بالدرجة الأولى، تعالج الجذور لا الأعراض، وتحصّن العقول قبل ملاحقة الأفعال.
ولطالما حذّرتُ من أن على الدولة الأردنية التفكير بجدية في تحديث أدواتها السياسية. فالنهج القائم، رغم فاعليته التاريخية، يواجه اليوم معادلات إقليمية متغيرة وسريعة الإيقاع، ما يفرض الانتقال من إدارة التوازنات إلى صناعة المبادرة. والمرحلة المقبلة تتطلب ابتكاراً حقيقياً في العمل السياسي وفي تجديد الفكر السياسي نفسه، ليكون قادراً على مخاطبة المجتمع، وخصوصاً الشباب، بلغة العصر وهمومه، ومواجهة التطرف الفكري بجميع أشكاله، الديني منه أو الأيديولوجي أو الشعبوي، عبر خطاب عقلاني جامع، وسياسات مشاركة وعدالة وفرص. وربط الإصلاح السياسي بإصلاح اقتصادي واجتماعي يفتح الأمل ويعزز الثقة بين الدولة والمجتمع، لأن تقوية الداخل باتت ضرورة سيادية لا خياراً مؤجلاً.
إن النظام الأردني قوي، ويمتلك من الخبرة والشرعية ما يؤهله للتعامل مع مختلف التهديدات، لكن قوة الأنظمة لا تُقاس فقط بصلابة المواقف، بل بمرونة الأدوات وتجددها. لذلك، يصبح من الضروري إفساح المجال لقيادات قادرة على تعزيز الجبهة الداخلية، ومنح من استُهلك دورهم أو تراجع وزنهم السياسي قسطاً من الراحة، لصالح وجوه تمتلك الكفاءة والرؤية والقدرة على إدارة التحديات المقبلة بروح جديدة.
وفي الختام، فإن الأردن اليوم لا يواجه مجرد مخاطر أمنية عابرة، بل يقف أمام اختبار تاريخي في قدرته على تحويل التحديات الإقليمية إلى فرصة لإعادة بناء قوته الداخلية على أسس سياسية حديثة، ومشروع وطني جامع، وإرادة إصلاحية مبتكرة. فالدول التي تصمد في هذا الإقليم ليست تلك التي تكتفي بالدفاع عن استقرارها، بل تلك التي تملك شجاعة إعادة تعريفه وصناعته. والأردن، بما يملكه من قيادة هاشمية شرعية، ووعي وطني متراكم، قادر على أن يكون في طليعة هذه الدول، إذا ما أحسن قراءة اللحظة وأطلق طاقات مجتمعه نحو أفق أكثر قوة وعدلاً وثقة بالمستقبل.
د. يزن دخل الله حدادين
محامٍ وخبير قانوني
ومن هنا، فإن التحصين الأردني لا يجب أن يكون أمنياً فقط في مواجهة احتمالات انتقال نماذج الصراع والتجاذبات من الإقليم المضطرب عبر حدوده الشمالية، بل سياسياً بالدرجة الأولى، عبر امتلاك مشروع وطني واضح لا يقوم على الارتباط العاطفي وحده، مهما كان راسخاً، وإنما على رؤية سياسية تنموية عميقة يكون الشباب في قلبها. مشروع يحوّل القلق الإقليمي إلى دافع للبناء الداخلي، ويترجم الانتماء إلى مشاركة فاعلة، ويصنع جيلاً مؤمناً بالدولة لأنه شريك في قرارها ومستقبلها، فتغدو الجبهة الداخلية محصّنة بالوعي والفرص والعدالة، لا بمجرد الإجراءات أو ردود الفعل.
ورغم ما قد يظهر أحياناً في الساحة الأردنية من مظاهر لفظية ذات طابع طائفي أو جغرافي أو مناطقي، أو محاولات متفرقة لإحياء خطابات سياسية قديمة، فإن الجبهة الداخلية الأردنية أثبتت عبر تاريخها أنها رصينة وحصيفة، تستند إلى عمق وطني راسخ ووعي سياسي متقدم لدى المجتمع. غير أن هذه المتانة، على أهميتها، تحتاج دائماً إلى أعلى درجات الحرص والحماية، لأن صيانة الوحدة الوطنية ليست حدثاً عابراً، بل مساراً مستمراً يتطلب يقظة دائمة، حتى لا تتحول الهامشيات إلى ثغرات يمكن لأي جهة معادية أن تنفذ منها.
وفي هذا السياق، تبرز أيضاً أهمية إيجاد حلول فكرية وعلمية جادة لمواجهة الفكر المتطرف الذي يظهر من فترة إلى أخرى في خلايا مختبئة في ظلام معتم، مستفيداً من الأزمات والفراغات والاحتقانات. وبرغم ثقتنا الكبيرة بالأجهزة الأمنية وكفاءتها في حماية الوطن، إلا أن المواجهة الحقيقية لهذا النوع من الفكر يجب أن تكون سياسية وثقافية وتربوية بالدرجة الأولى، تعالج الجذور لا الأعراض، وتحصّن العقول قبل ملاحقة الأفعال.
ولطالما حذّرتُ من أن على الدولة الأردنية التفكير بجدية في تحديث أدواتها السياسية. فالنهج القائم، رغم فاعليته التاريخية، يواجه اليوم معادلات إقليمية متغيرة وسريعة الإيقاع، ما يفرض الانتقال من إدارة التوازنات إلى صناعة المبادرة. والمرحلة المقبلة تتطلب ابتكاراً حقيقياً في العمل السياسي وفي تجديد الفكر السياسي نفسه، ليكون قادراً على مخاطبة المجتمع، وخصوصاً الشباب، بلغة العصر وهمومه، ومواجهة التطرف الفكري بجميع أشكاله، الديني منه أو الأيديولوجي أو الشعبوي، عبر خطاب عقلاني جامع، وسياسات مشاركة وعدالة وفرص. وربط الإصلاح السياسي بإصلاح اقتصادي واجتماعي يفتح الأمل ويعزز الثقة بين الدولة والمجتمع، لأن تقوية الداخل باتت ضرورة سيادية لا خياراً مؤجلاً.
إن النظام الأردني قوي، ويمتلك من الخبرة والشرعية ما يؤهله للتعامل مع مختلف التهديدات، لكن قوة الأنظمة لا تُقاس فقط بصلابة المواقف، بل بمرونة الأدوات وتجددها. لذلك، يصبح من الضروري إفساح المجال لقيادات قادرة على تعزيز الجبهة الداخلية، ومنح من استُهلك دورهم أو تراجع وزنهم السياسي قسطاً من الراحة، لصالح وجوه تمتلك الكفاءة والرؤية والقدرة على إدارة التحديات المقبلة بروح جديدة.
وفي الختام، فإن الأردن اليوم لا يواجه مجرد مخاطر أمنية عابرة، بل يقف أمام اختبار تاريخي في قدرته على تحويل التحديات الإقليمية إلى فرصة لإعادة بناء قوته الداخلية على أسس سياسية حديثة، ومشروع وطني جامع، وإرادة إصلاحية مبتكرة. فالدول التي تصمد في هذا الإقليم ليست تلك التي تكتفي بالدفاع عن استقرارها، بل تلك التي تملك شجاعة إعادة تعريفه وصناعته. والأردن، بما يملكه من قيادة هاشمية شرعية، ووعي وطني متراكم، قادر على أن يكون في طليعة هذه الدول، إذا ما أحسن قراءة اللحظة وأطلق طاقات مجتمعه نحو أفق أكثر قوة وعدلاً وثقة بالمستقبل.
د. يزن دخل الله حدادين
محامٍ وخبير قانوني
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/26 الساعة 19:14