النعيمات يكتب: المادة (100-أ-2) من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام: إصلاح إداري أم تفريغ للضمانات الوظيفية؟

أ.د.أسامة أحمد النعيمات
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/23 الساعة 11:31
ليس كل ما يُطرح تحت لافتة الإصلاح الإداري يُعد إصلاحًا بالمعنى الدستوري والقانوني الدقيق، ولا كل توسيع في صلاحيات الإدارة يؤدي بالضرورة إلى رفع كفاءة المرفق العام. فالإصلاح الحقيقي، في دولة القانون، لا يُقاس باتساع السلطة، بل بمدى انضباطها بالضمانات والقيود التي تكفل العدالة والاستقرار الوظيفي. من هذا المنطلق، تثير المادة (100/أ/2) من نظام إدارة الموارد البشرية في القطاع العام لسنة 2024 إشكالية قانونية عميقة تمس فلسفة الوظيفة العامة ذاتها، وتضعنا أمام سؤال مشروع: هل نحن أمام أداة إصلاح إداري حقيقية، أم أمام نص يُفرغ الضمانات الوظيفية من مضمونها ويُلقي بعبء الحماية على القضاء الإداري وحده؟

تنطوي هذه المادة على أثر بالغ الخطورة، لأنها تتصل بإنهاء خدمة الموظف العام، وهو الأثر الأشد في الحياة الوظيفية، والأكثر مساسًا بالمركز القانوني المكتسب للموظف. ومن ثم، فإن أي نص يمنح الإدارة صلاحية اللجوء إلى هذا الإجراء لا يجوز النظر إليه بوصفه مجرد تنظيم إداري، بل يجب إخضاعه لمعايير صارمة من حيث الوضوح والتحديد والتناسب، مع التأكيد على خضوعه لرقابة القضاء الإداري بوصفه الضامن الأخير لمشروعية القرار الإداري وحماية الحقوق الوظيفية.

ويُلاحظ أن صياغة المادة جاءت واسعة ومرنة، معتمدة على مفاهيم غير منضبطة قانونًا مثل عدم الكفاءة أو الإخلال بالواجبات أو عدم الصلاحية، دون ربطها بمعايير موضوعية أو مؤشرات أداء محددة. هذا الغموض لا ينعكس فقط على مركز الموظف، بل يُلقي بعبء إضافي على القضاء الإداري، الذي يجد نفسه مطالبًا بتفسير هذه المفاهيم وتحديد مداها عند نظر الطعون، في حين أن الأصل أن يكون النص التشريعي ذاته واضحًا بما يكفي لتمكين القاضي من ممارسة رقابة فعالة على السبب دون أن يتحول إلى مشرّع بديل.

ويزداد الإشكال حين يتضح أن المادة، من حيث التطبيق العملي، تسمح بإنهاء خدمة الموظف لأسباب تتصل بسلوكه أو أدائه الوظيفي دون المرور بالمسار التأديبي الكامل، بما يتضمنه من تحقيق ومواجهة وحق دفاع. وهنا يبرز دور القضاء الإداري بجلاء، إذ يقع على عاتقه التحقق من عدم استخدام إنهاء الخدمة كأداة التفاف على النظام التأديبي، وبسط رقابته على حقيقة السبب، للتأكد من أن القرار لم يصدر عقوبة مقنّعة في ثوب إجراء إداري.

كما أن النص خلا من تقرير ضمانات إجرائية صريحة تتناسب مع خطورة الأثر المترتب عليه، فلم يُلزم الإدارة بتسبيب مشدد لقرار إنهاء الخدمة، ولم ينص صراحة على حق الموظف في السماع أو مواجهة الأدلة. وفي مثل هذه الحالات، يصبح القضاء الإداري هو الحارس الأساسي لمبدأ المشروعية، من خلال فرضه رقابة صارمة على تسبيب القرار، والتحقق من سلامة إجراءاته، وعدم الاكتفاء بالمسوغات الشكلية التي قد تسوقها الإدارة.

وتمنح المادة الإدارة سلطة تقديرية واسعة في تقييم الكفاءة وتقدير جسامة الإخلال وتحديد توقيت إنهاء الخدمة، دون أن تُقابل هذه السلطة بضوابط موضوعية مُلزمة. غير أن هذه السلطة، مهما اتسعت، لا تخرج عن نطاق الرقابة القضائية، إذ يظل القضاء الإداري مختصًا ببسط رقابته على مدى معقولية التقدير، والتحقق من عدم إساءة استعمال السلطة أو الانحراف بها، ومن احترام مبدأ المساواة بين الموظفين في الحالات المتماثلة.

ومن زاوية التناسب، فإن إنهاء الخدمة يُعد الجزاء الأقصى في الحياة الوظيفية، ومع ذلك لم تُلزم المادة الإدارة باحترام التدرج في الجزاءات أو البحث عن بدائل أقل جسامة. وهنا تتجلى أهمية الرقابة القضائية، التي يُفترض أن تتدخل لضمان التناسب بين الفعل والجزاء، وألا يُستخدم إنهاء الخدمة إلا كخيار أخير تفرضه الضرورة، لا كإجراء أولي تُمارسه الإدارة بمرونة غير محسوبة.

وعلى الصعيد الدستوري، تثير المادة تساؤلات جدية حول مدى انسجامها مع مبدأ سيادة القانون، إذ إن اتساع السلطة التقديرية دون ضوابط واضحة يؤدي إلى تقليص الحماية القانونية للموظف، ويجعل من القضاء الإداري صمام الأمان الوحيد للحفاظ على التوازن بين مقتضيات المرفق العام وحقوق الأفراد. غير أن تحميل القضاء وحده هذا العبء لا يُعد حلًا تشريعيًا سليمًا، بل يفرض ضرورة مراجعة النص ذاته لضبط حدوده وضماناته.

ولا خلاف على أن القضاء الإداري يملك أدوات رقابية فعالة، تمتد إلى فحص السبب، والتحقق من التناسب، وبسط رقابته على سلامة الإجراءات والانحراف بالسلطة. إلا أن فاعلية هذه الرقابة تظل رهينة بصياغة تشريعية منضبطة، لا تُلقي على القاضي عبء سد الفراغ التشريعي أو معالجة الغموض المفاهيمي الذي كان بالإمكان تفاديه بنص أكثر دقة وتوازنًا.

وخلاصة القول إن المادة (100/أ/2) بصيغتها الحالية تُرجّح كفة السلطة الإدارية على حساب الضمانات الوظيفية، وتجعل من القضاء الإداري خط الدفاع الأخير عن حقوق الموظف العام. وإذا كان الإصلاح الإداري هدفًا مشروعًا لا خلاف عليه، فإن تحقيقه لا يكون بتوسيع الصلاحيات على حساب الضمانات، بل بتشريعات واضحة، وإجراءات عادلة، ومعايير موضوعية، تعزز من كفاءة الإدارة، وتُفعّل الرقابة القضائية، وتكرّس الثقة بين الموظف والدولة.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/23 الساعة 11:31