حين تصبح الإدارة بديلاً عن السياسة: يتكون جيل يعرف كل شيء ولا يملك شيئًا
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/23 الساعة 10:26
أخطر ما يمكن أن يحدث في أي دولة ليس غياب السياسة، بل أن تُستبدل بالإدارة. أن تتحوّل الأسئلة الكبرى إلى ملفات، والخيارات المصيرية إلى إجراءات، وأن يصبح النقاش العام مجرّد شرح تقني لما تقرره اللجان. في هذه اللحظة لا تضعف الدولة، لكنها تفقد قدرتها على صياغة الإلهام، وتكتفي بقدرتها على التنظيم.
الإدارة ضرورية، بل لا قيام للدولة الحديثة دونها. لكنها حين تنفصل عن السياسة، تتحوّل من أداة إلى غاية، ومن وسيلة لتحقيق العدالة إلى نظام يحسن الضبط ويُجيد العدّ، لكنه يعجز عن الإصغاء. الدولة التي تُدار جيدًا لكنها لا تُناقش، تشبه آلة دقيقة تعمل بلا روح؛ صحيحة في حساباتها، خاطئة في أثرها.
نعيش اليوم مفارقة لافتة: جيل يعرف كل شيء، ولا يملك شيئًا. جيل يرى العالم في هاتفه، يفهم الاقتصاد بكل تفاصيله، ويقرأ السياسة بلغة عالمية، ويدرك حدود الممكن والمستحيل. لكنه في اللحظة ذاتها، يقف خارج دائرة الفعل، لا لأنّه عاجز، بل لأنّ المساحة ضاقت، واللغة لم تعد لغته، والخيارات التي قُدّمت له اخذت منحنى إداريًا لا مشروعًا سياسيًا قابلًا للنقاش والتجويد.
هذا الجيل لا يطلب المستحيل، ولا يهتف بالشعارات، ولا يعادي الدولة. هو ابنها، نتاج مدارسها وجامعاتها وخطابها الوطني. لكنه يسأل سؤالًا بسيطًا ومؤلمًا: أين موقعي من صناعة القرار؟ ماذا أفعل بكل هذا الوعي إن لم يتحوّل إلى أثر؟ كيف أكون مواطنًا كاملًا أما إن دوري ينتهي عند الاستهلاك والامتثال؟
الفجوة اليوم ليست بين الدولة وشبابها، بل بين لغة الدولة ولغة الجيل. الدولة تتحدث بالأرقام، بالجداول، بمؤشرات الأداء، والجيل يتحدث بالقيم، بالمعنى، وبالعدالة. وحين لا يجد الجيل نفسه في لغة دولته، لن يعارضها، بل يهاجر وينسحب بهدوء، وهذا أخطر أشكال الفقد.
من موقع الانتماء لا الخصومة، ومن موقع الإيمان لا الشك، يمكن القول إن استعادة السياسة ليست ترفًا ولا مخاطرة، بل ضرورة وطنية. السياسة هنا لا تعني الفوضى ولا الصدام، بل تعني الحوار، والاختيار، وتحمل المسؤولية. تعني أن يشعر المواطن، خصوصًا الشاب، أن ما يحدث ليس فقط مُدارًا بكفاءة، بل مُختارًا بوعي.
استعادة الأمل لا تكون بالقفز فوق الواقع، ولا بتزيين اللغة، بل بإعادة السياسة إلى مكانها الطبيعي كمساحة ثقة متبادلة. حين يُعامل الشباب شركاء لا جمهورًا، ويُفتح أمامهم باب السؤال قبل باب التعليمات، يبدأ الأمل بالعودة بهدوء. الأمل ليس وعدًا سريعًا، بل شعور بأن الصوت مسموع، وأن الاختيار ممكن، وأن الدولة لا تخشى أبناءها حين يفكرون. وربما يكون الطريق إلى ذلك أبسط مما نتصور: أن نُصغي قبل أن نُقرّر، أن نجرّب بدل أن نؤجّل، وأن نترك مساحات للفعل الحقيقي تكبر بثقة لا بإدارة. في تلك اللحظة، لا يتغير كل شيء دفعة واحدة، لكن يتغير الاتجاه، ويكفي أحيانًا أن يعرف الجيل أن هناك من ينتظر فكرته، لا فقط صبره.
ياسادة الدول القوية لا تخشى السياسة، لأنها واثقة من نفسها. والعدالة الاجتماعية، التي نؤمن بها، لا تتحقق بالإدارة وحدها، بل بسياسة ترى الناس قبل الأرقام، وتسمع الأسئلة وتحاول الاجابة قبل إقرار القوانين والتعليمات.
السياسة ليست ضجيجًا، بل بوصلة. وحين تغيب البوصلة، قد نمشي طويلًا، وقد نصل بسرعة، لكننا قد نصل إلى مكان لا يشبهنا، ولا يشبه الدولة التي نريدها. عندها لا يرتفع الصوت، بل يثقل الصمت، ولا تظهر القطيعة، بل تتراكم المسافات بصبرٍ مُرهِق. جيلٌ يحمل الكثير من الأسئلة، ويُطالَب بالانتظار أكثر مما يُطالَب بالأمل، يقف على الحافة دون أن يلوّح بيده. لا لأنه لا يريد العبور، بل لأنه لا يرى الجسر. وفي الدول، كما في البشر، ما لا يُقال طويلًا لا يختفي… بل يبحث عن لحظة أخرى ليُقال بطريقة مختلفة.
الإدارة ضرورية، بل لا قيام للدولة الحديثة دونها. لكنها حين تنفصل عن السياسة، تتحوّل من أداة إلى غاية، ومن وسيلة لتحقيق العدالة إلى نظام يحسن الضبط ويُجيد العدّ، لكنه يعجز عن الإصغاء. الدولة التي تُدار جيدًا لكنها لا تُناقش، تشبه آلة دقيقة تعمل بلا روح؛ صحيحة في حساباتها، خاطئة في أثرها.
نعيش اليوم مفارقة لافتة: جيل يعرف كل شيء، ولا يملك شيئًا. جيل يرى العالم في هاتفه، يفهم الاقتصاد بكل تفاصيله، ويقرأ السياسة بلغة عالمية، ويدرك حدود الممكن والمستحيل. لكنه في اللحظة ذاتها، يقف خارج دائرة الفعل، لا لأنّه عاجز، بل لأنّ المساحة ضاقت، واللغة لم تعد لغته، والخيارات التي قُدّمت له اخذت منحنى إداريًا لا مشروعًا سياسيًا قابلًا للنقاش والتجويد.
هذا الجيل لا يطلب المستحيل، ولا يهتف بالشعارات، ولا يعادي الدولة. هو ابنها، نتاج مدارسها وجامعاتها وخطابها الوطني. لكنه يسأل سؤالًا بسيطًا ومؤلمًا: أين موقعي من صناعة القرار؟ ماذا أفعل بكل هذا الوعي إن لم يتحوّل إلى أثر؟ كيف أكون مواطنًا كاملًا أما إن دوري ينتهي عند الاستهلاك والامتثال؟
الفجوة اليوم ليست بين الدولة وشبابها، بل بين لغة الدولة ولغة الجيل. الدولة تتحدث بالأرقام، بالجداول، بمؤشرات الأداء، والجيل يتحدث بالقيم، بالمعنى، وبالعدالة. وحين لا يجد الجيل نفسه في لغة دولته، لن يعارضها، بل يهاجر وينسحب بهدوء، وهذا أخطر أشكال الفقد.
من موقع الانتماء لا الخصومة، ومن موقع الإيمان لا الشك، يمكن القول إن استعادة السياسة ليست ترفًا ولا مخاطرة، بل ضرورة وطنية. السياسة هنا لا تعني الفوضى ولا الصدام، بل تعني الحوار، والاختيار، وتحمل المسؤولية. تعني أن يشعر المواطن، خصوصًا الشاب، أن ما يحدث ليس فقط مُدارًا بكفاءة، بل مُختارًا بوعي.
استعادة الأمل لا تكون بالقفز فوق الواقع، ولا بتزيين اللغة، بل بإعادة السياسة إلى مكانها الطبيعي كمساحة ثقة متبادلة. حين يُعامل الشباب شركاء لا جمهورًا، ويُفتح أمامهم باب السؤال قبل باب التعليمات، يبدأ الأمل بالعودة بهدوء. الأمل ليس وعدًا سريعًا، بل شعور بأن الصوت مسموع، وأن الاختيار ممكن، وأن الدولة لا تخشى أبناءها حين يفكرون. وربما يكون الطريق إلى ذلك أبسط مما نتصور: أن نُصغي قبل أن نُقرّر، أن نجرّب بدل أن نؤجّل، وأن نترك مساحات للفعل الحقيقي تكبر بثقة لا بإدارة. في تلك اللحظة، لا يتغير كل شيء دفعة واحدة، لكن يتغير الاتجاه، ويكفي أحيانًا أن يعرف الجيل أن هناك من ينتظر فكرته، لا فقط صبره.
ياسادة الدول القوية لا تخشى السياسة، لأنها واثقة من نفسها. والعدالة الاجتماعية، التي نؤمن بها، لا تتحقق بالإدارة وحدها، بل بسياسة ترى الناس قبل الأرقام، وتسمع الأسئلة وتحاول الاجابة قبل إقرار القوانين والتعليمات.
السياسة ليست ضجيجًا، بل بوصلة. وحين تغيب البوصلة، قد نمشي طويلًا، وقد نصل بسرعة، لكننا قد نصل إلى مكان لا يشبهنا، ولا يشبه الدولة التي نريدها. عندها لا يرتفع الصوت، بل يثقل الصمت، ولا تظهر القطيعة، بل تتراكم المسافات بصبرٍ مُرهِق. جيلٌ يحمل الكثير من الأسئلة، ويُطالَب بالانتظار أكثر مما يُطالَب بالأمل، يقف على الحافة دون أن يلوّح بيده. لا لأنه لا يريد العبور، بل لأنه لا يرى الجسر. وفي الدول، كما في البشر، ما لا يُقال طويلًا لا يختفي… بل يبحث عن لحظة أخرى ليُقال بطريقة مختلفة.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/23 الساعة 10:26