حدادين يكتب: أفق جديد للسياسة الأردنية

المحامي الدكتور يزن دخل الله حدادين
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/19 الساعة 19:36
تشهد البيئة السياسية في الإقليم والعالم تحوّلات متسارعة في الأدوات والأساليب، ما يفرض على الدول مراجعة مناهجها في إدارة الشأن العام، والانتقال من الاكتفاء بالتكيّف مع المتغيّرات إلى امتلاك القدرة على المبادرة وصناعة المسارات. وفي هذا السياق، تبدو الحاجة ملحّة لأن يطوّر الأردن نهجه السياسي بما ينسجم مع متطلبات المرحلة، ويعزّز حضوره كدولة فاعلة قادرة على تحويل التحديات إلى فرص.

لقد راكم الأردن تجربة سياسية ثرية، قائمة على العقلانية وحسن قراءة التوازنات الإقليمية والدولية، وهو ما شكّل ركيزة أساسية للاستقرار في محيط معقّد. غير أنّ المرحلة الراهنة تستدعي من الحكومة أن تنتقل بهذه العقلانية من إطار التحوّط وإدارة الممكن، إلى إطار أوسع يقوم على المبادرة وصناعة التأثير، بحيث يصبح الاستقرار قاعدة لفعل سياسي أكثر حضورًا ووضوحًا في المواقف.

إن النصيحة الأهم للحكومة الأردنية اليوم هي أن تجعل من التحديث السياسي مسارًا عمليًا لا شعارًا عامًا، وأن تضع التنفيذ في صدارة الأولويات. فالمواطن لم يعد يقيّم السياسات بما يُعلن عنها، بل بما يلمسه من أثر في حياته اليومية. ومن هنا، فإن الجرأة في اتخاذ القرار، وتسريع تحويل الرؤى إلى سياسات عامة قابلة للقياس، باتت شرطًا لتعزيز الثقة وتجديد العلاقة بين الدولة والمجتمع.

وفي قلب هذا التحوّل، تبرز الحاجة إلى إنتاج نخب سياسية شابة، لا بوصفها إضافة شكلية للمشهد، بل كقوة حقيقية لصناعة المستقبل. فالشباب الأردني يمتلك الوعي والأدوات والقدرة على التفاعل مع لغة العصر، وما يحتاجه هو فتح المسارات أمامه للتدرّج الطبيعي في العمل العام، عبر أحزاب فاعلة، وبرامج إعداد قيادي جادّة، ومؤسسات تكتشف الكفاءات وتصقلها، بدل الاكتفاء بإعادة إنتاج الأسماء نفسها.

إن بناء نخب شابة متجددة يتطلّب من الدولة أن ترعى بيئة سياسية تنافسية وعادلة، تضمن تكافؤ الفرص بين الأجيال، وتكافئ الكفاءة لا القرب، والفكرة لا الموقع. فبهذا فقط يمكن أن تتشكّل طبقة سياسية جديدة تحمل روح الدولة وخبرتها، وفي الوقت نفسه تمتلك جرأة التجديد ووعي التحوّل.

كما أن المرحلة تستدعي جرأة أكبر في الموقف السياسي، داخليًا وخارجيًا، جرأة هادئة تقوم على وضوح الرؤية والثقة بالنفس، لا على المجازفة. فالأردن، بما يمتلكه من رصيد سياسي واحترام دولي، قادر على أن يعبّر عن مصالحه الوطنية بوضوح أعمق، وأن يتحوّل من موقع إدارة التوازنات إلى موقع المساهمة في صياغتها، ضمن نهج أردني مستقل يستند إلى الثوابت وينفتح على الممكن.

إن إيجاد نهج أردني عميق في السياسة يعني بناء مقاربة تجمع بين الواقعية التي ميّزت التجربة الأردنية، والطموح الذي تفرضه تحوّلات العصر. نهج يرى في الاستقرار منصة للتحديث، وفي المؤسسات رافعة للإصلاح، وفي المجتمع شريكًا في صناعة القرار، لا مجرد متلقٍ لنتائجه.

ويمتلك الأردن من المقوّمات ما يؤهّله لذلك: دولة راسخة، مؤسسات متينة، وتجربة سياسية طويلة، إلى جانب مجتمع شاب وحيوي. وما يحتاجه اليوم هو شجاعة المراجعة، ووضوح الأولويات، والاستثمار الجاد في الإنسان الأردني بوصفه جوهر أي مشروع نهضوي.

في المحصّلة، السياسة الأردنية أمام فرصة تاريخية للانتقال إلى أفق جديد، أفق يقوم على المبادرة لا الانتظار، وعلى إنتاج النخب لا استهلاكها، وعلى الجرأة المسؤولة لا الحذر المفرط. فالدول التي تملك الشجاعة لتطوير نهجها في الوقت المناسب، هي الأقدر على حماية استقرارها وصناعة مستقبلها بثقة.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/19 الساعة 19:36