الموازنة العامة بين الشعبوية والاختصاص الدستوري

أ. د. ليث كمال نصراوين
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/14 الساعة 07:46
أقرّ مجلس النواب قبل أيام مشروع قانون الموازنة العامة لعام 2026 عقب مناقشات نيابية مطوّلة اتسمت بارتفاع سقف الخطاب فيها، لكنها انتهت، على نحو مألوف، بتصويت واسع لصالح المشروع، لتغلب على الجلسات لغة المطالبات الشعبوية بزيادة الرواتب وتحسين الدخول، دون أن تجد هذه المقترحات طريقها إلى النص التشريعي عبر أدوات دستورية واضحة أو تعديلات مالية ملموسة.

وإذا كان من الطبيعي أن تُطرح هموم المواطنين المعيشية تحت القبة، فإن الإشكالية تبدأ عندما تُطرح تلك العناوين في غير سياقها الدستوري السليم. فهذه المطالب، على أهميتها الاجتماعية ومشروعيتها السياسية، تفتقر في إطار مناقشة الموازنة إلى السند الدستوري السليم، إذ تجيز المادة (112) من الدستور لمجلس الأمة عند مناقشة مشروع قانون الموازنة العامة إنقاص النفقات المالية دون زيادتها. وهنا تتولد مفارقة واضحة، إذ يرفع هذا النهج سقف التوقعات الشعبية ويلامس هموم المواطنين واحتياجاتهم الأساسية من دون أن يقدم مسارًا دستوريًا قابلاً للترجمة إلى قرار مالي ملزم، فتتسع الفجوة بين ما يُقال تحت القبة وما ينتهي إليه النص التشريعي.

ومن جهة أخرى، لم يقتصر الابتعاد عن جوهر الموازنة على طبيعة المطالب، بل امتد إلى طبيعة الخطاب ذاته، إذ تحولت بعض المداخلات النيابية إلى منصات لتصفية الحسابات مع رؤساء وزراء ووزراء سابقين، بما أخرج النقاش من إطاره الدستوري وحوّله إلى سجال سياسي لا ينسجم مع مقتضيات الرقابة البرلمانية الرشيدة. ويؤدي هذا السلوك إلى خلطٍ واضح بين الدور التشريعي الذي تقتضيه الموازنة بوصفها قانونًا ماليًا سنويًا، وبين أدوات الرقابة البرلمانية، فلا يجوز تحويل مناقشتها إلى بديل عن تلك الأدوات أو إلى ساحة لتبادل الاتهامات خارج مسارات مساءلة واضحة.

وعند هذا الحد تتكشف الإشكالية الأعمق، حيث يبدو المشهد العام معبّرًا عن قصور في إدراك الطبيعة الدستورية لمشروع قانون الموازنة، الذي يصر بعض النواب على التعامل معه بوصفه قانونًا استثنائيًا عند مناقشته والتصويت عليه. في حين أن الموازنة تمثل الصيغة الأوضح للسياسة الاقتصادية والاجتماعية للدولة، وكان يفترض أن ينصبّ النقاش على العجز المتوقع فيها، وحجم الدين العام، ومصادر التمويل، وأولويات الإنفاق بين الجاري والرأسمالي، وكلفة خدمة الدين، ومدى واقعية تقديرات الإيرادات الضريبية وانعكاساتها على فرص العمل والاستثمار، بدل الانجراف إلى خطاب شعبوي عام أو محاكمة سياسية لوزراء سابقين.

ويزداد هذا الخلل وضوحًا حين نلاحظ أن الانتقادات التي طُرحت لم ترتقِ إلى مستوى البدائل. فالموقف التشريعي لا ينبغي أن يكون احتجاجًا مجردًا، بل مسؤولية تقتضي اقتراح بدائل وحلول اقتصادية ومالية تهدف إلى الخروج من الواقع القائم. أما الاكتفاء برفض عام أو انتقاد إنشائي دون بديل قابل للتنفيذ، فيجعل الخطاب النيابي بلا أثر، ويكون المنتج النهائي قانونًا يمرّ بصيغته الحكومية، دون أن يُظهر مجلس النواب أثرًا تشريعيًا ملموسًا عليه.

ولا ينفصل ما سبق عن بنية العمل داخل المجلس وأدواته الفنية، فما تقوم به اللجان المختصة، ولا سيما اللجنة المالية، لا ينعكس على النقاش العام تحت القبة بالقدر المتوقع. فالموازنات في البرلمانات المقارنة تقودها اللجان النيابية عبر تقارير تفصيلية وتحليلات رقمية، ثم يأتي النقاش العام امتدادًا لذلك العمل الفني. أما عندما يغيب أثر التخصص وتذوب التقارير في خطاب عام، فهذا يعني أن الثقافة البرلمانية لا تزال تميل إلى الخطابة أكثر من ميلها إلى صناعة القرار المبني على تحليل مالي واقتصادي سليم.

وفي الوقت الذي كان يفترض أن يظهر العمل الحزبي والكتلوي بوصفه رافعة للبرامج والمواقف، جاءت الصورة معاكسة. فقد بدا حضور الأحزاب والكتل داخل المجلس واضحًا عند تقاسم المواقع، لكنه لم يمتد بالقدر ذاته إلى موقف حزبي أو كتلوِي متماسك تجاه مشروع قانون الموازنة. فلم نلمس دعمًا قائمًا على برنامج اقتصادي واضح، ولا معارضة مؤسسة على بدائل قابلة للتطبيق، وكأن الأحزاب السياسية قد اكتفت بتقاسم المواقع، دون أن تمتد إلى إنتاج موقف اقتصادي تشريعي مسؤول من قانون الموازنة العامة.

إن هذه الإشكالية التشريعية المتكررة لا تعود إلى النصوص الدستورية، فهي واضحة في تحديد الاختصاصات والآليات، بقدر ما تعود إلى ممارسات خاطئة تراكمت وأصبحت تنتقل من مجلس إلى آخر، تقوم على التعامل مع جلسات مناقشة الموازنة بوصفها ساحة استعراض نيابية وخطبًا شعبوية لا ينعكس أثرها عند التصويت النهائي. فالموازنة ليست موسمًا للخطابة، بل امتحانًا سنويًا لجدية العمل البرلماني وبرامجيته وقدرته على إحداث أثر حقيقي في العملية التشريعية.

ومن هنا، فإن الحاجة باتت ملحة لإعادة بناء ثقافة سليمة بخصوص مناقشة الموازنات السنوية، تقوم على أسس من التخصصية والانضباط، بحيث يعود النقاش إلى صلب بنود القانون وأثرها المالي، وتستعاد وظيفة اللجان، ويترجم الحضور الحزبي والكتلوي إلى مواقف برامجية لا إلى تقاسم مواقع، حتى يكون للمجلس أثر تشريعي ملموس يراه المواطن في النص القانوني النهائي، لا يسمعه فقط في قاعة المجلس وأثناء جلساته.
مدار الساعة ـ نشر في 2025/12/14 الساعة 07:46